مطلوب كشف الأسباب والمسببين
علي محمد فخرو
انعقد منذ بضعة أسابيع المؤتمر السنوي العالمي للاقتصاد في منتجع دافوس الشهير في سويسرا. وكالعادة ركزت وسائل الإعلام على خطابات كبار ساسة العالم، الذين يكررون في دافوس قول ما يسمع الإنسان من أقوالهم طيلة العام. وجل ما يهم غالبيتهم هو دغدغة مشاعر ومعتقدات شعوبهم وبلدانهم، والتهنئة بإعادة انتخابهم أو بقائهم في وظائفهم المريحة. من هنا تألق نجومية أمثال رئيسة وزراء ألمانيا ورئيس جمهورية الصين ورئيس افريقيا الجنوبية ورئيس وزراء الهند والأمين العام لهيئة الأمم المتحدة. ولعل الانشغال بجائحة كورونا هو الذي يفسر قلة غياب بعض السياسيين في مؤتمر هذا العام.
نقاشات دافوس تفصل الاقتصاد عن السياسة والاجتماع والثقافة والفلسفة، وتحول الاقتصاد العولمي النيوليبرالي السوقي صنما مقدسا لا فكاك منه
وكالعادة أيضا اهتمت وسائل الإعلام بما يقوله الحاضرون من رؤساء المؤسسات الاقتصادية العالمية والخاصة، ومن مالكي المليارات في هذا العالم، ومن الاستشاريين الاقتصاديين المرضي عنهم، وإن نظرة خاصة على جدول الأعمال، تظهر اهتماما بالمشاكل الكبرى المزمنة، مثل تدهور بيئة الأرض والبطالة ومسؤوليات الشركات الخاصة الاجتماعية، وقضايا وإمكانيات التطورات التكنولوجية الهائلة، كما تظهر اهتماما بالمشاكل المستجدة، مثل تأثيرات جائحة كورونا على الاقتصاد العالمي، أو الصعود المذهل لموضوع الأمراض العقلية كخطر وكأولوية مجابهة. لكن الملاحظ أن غالبية الاطروحات والمناقشات تركز على تشخيص الأمراض وتقديم مقترحات حلول جزئية أو مؤقتة أو سطحية، من دون أن تتعمق في الأسباب الحقيقية والإشارة إلى المسببين الحقيقيين. ولذلك سيسمع المهتم ويقرأ عن نواقص أوضاع الاقتصاد العولمي، وعن تحسين بيئة وإنجازات القطاع الخاص، وعن أثر التطورات التكنولوجية على الاقتصاد، وعن محاولات التعاون الدولي المحدود في شؤون التجارة الدولية، وغيرها من مواضيع مماثلة، وسيستمع إلى ويقرأ عن ما يشبه النصائح والترجيات لأرباب القطاع الخاص، ليساهموا في تقليل الفاقة والبؤس والبطالة التي يرزح تحتها مليارات فقراء العالم. لكن الفلسفة والمسلمات الخاطئة ومقررات الجامعات واستنتاجات مراكز البحوث، التي تقف وراء ما يقود الأزمات الاقتصادية الدورية وإلى تلك المشاكل التي يبحثونها ويعلكونها سنويا ويستفرغونها كلاما منمقا وأمنيات ساذجة، فإنها لن تكون موجودة في جدول الاجتماعات. من هنا لا تبحث مسلمات ونواقص وادعاءات الفلسفة النيوليبرالية الرأسمالية العولمية المتوحشة، ولا تعتبر نتائج تركز الثروة في أياد قليلة، بحيث يملك واحد في المئة خمسين في المئة من ثروة العالم، كقضايا أخلاقية وإنسانية وحقوقية، ولا يجرؤ من يتحدى قدسية المقولة بأن قانون السوق، قانون العرض والطلب والمضاربات المجنونة والتنافس التصارعي القاتل، هو وحده الذي يجب أن يحكم مسيرة الاقتصاد الوطني والدولي. والسبب واضح، إذ أن قسما كبيرا ممن يحضرون ويشخصون ويقترحون الحلول هم من المسببين، ومن جانيي الثمار، أو ممن يخدمونهم كتابة ونشرا لفلسفة الاقتصاد العولمي الجديد، وإدارة لكل مؤسساته المالية. ومن المؤكد أنه لو تجرأت المؤسسة الداعية لمؤتمرات دافوس ووضعت على جدول الأعمال مواضيع تؤدي إلى إجراء تغييرات جذرية في فلسفة وممارسات النظام الرأسمالي العولمي الجائر، وبالتالي التفتيش عن نظام اقتصادي أكثر عدلا وإنسانية وأخلاقية، فإن غالبية المواظبين على الحضور السنوي من نوع السياسيين والأثرياء وحاشية الدعم والخدمة والتطبيل الذين يكتفون بمس السطح، ويتجنبون المساس بالجذور، فإن هؤلاء لن يحضروا، بل سيكيلون الاتهامات لمؤتمرات دافوس.
ما يثير الاستغراب هو إصرار الحضور على فصل الاقتصاد عن السياسة. فعلى الرغم من الحروب والصراعات والشعبوية العدائية والخلافات السياسية والإعلامية في ما بين دول القيادة والتأثير في هذا العالم، تصر نقاشات دافوس على فصل الاقتصاد عن السياسة والاجتماع والثقافة والفلسفة، لتجعل من نظام الاقتصاد العولمي النيوليبرالي السوقي (من السوق) صنما مقدسا لا فكاك منه. عبر سنين والعالم يتكلم عن ظاهرة دافوس المحيرة، لكن دافوس تظل في صمت مطبق.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2021/02/11