بعد ست سنوات: حان الوقت لوقف حرب اليمن
د. سعيد الشهابي
لا يبدو حتى الآن وجود رغبة حقيقية لوقف حرب اليمن التي تكمل هذا الأسبوع عامها السادس. فالأطراف المشاركة فيها كافة تسعى لتقوية موقفها التفاوضي بتحقيق انتصارات ميدانية جديدة فيما تحصد الحرب أرواح الأبرياء وتفاقم الأزمة الإنسانية في البلاد.
وكانت هناك آمال عريضة بأن يؤدي وصول جو بايدن إلى الرئاسة في الانتخابات الأخيرة لوقف إطلاق النار. ولكن بعد مرور شهرين على استلامه مقاليد الرئاسة لا يبدو الرئيس الجديد في عجلة من أمره. ففي ما عدا قرار بوقف تزويد السعودية بأسلحة يمكن استخدامها في الحرب، لم تكن هناك قرارات توحي بقرب انتهاء العمليات العسكرية التي لم تتوقف. وهناك الآن تسخين ميداني خطير في محيط مدينة مأرب التي يسعى الجيش واللجان الشعبية للسيطرة عليها لتكتمل قبضة جماعة «أنصار الله» على اليمن الشمالي كله. وفي غياب موقف عربي وإسلامي موحد يتواصل النزاع الذي لن يستطيع المتحاربون حسمه عسكريا. بينما تؤسس الأطراف الغربية المشاركة فيه مواقفها بلحاظ المصالح الاقتصادية والنفوذ السياسي بالإضافة للرغبة في استغلاله فكريا في إطار الصراع مع الإسلام خصوصا في تجلياته السياسية.
اليوم تتداخل المقولات السياسية الدائرة حول حرب اليمن بعد ان أصبحت تحديا حقيقيا للذوق البشري والسياسة الدولية. وتتسابق الجهات الحقوقية والإغاثية وبعض الجهات السياسية من أجل وقفها والبحث في صيغ جديدة لمرحلة ما بعد الحرب في بلد هو الأشد فقرا في ربوع العالم العربي. ولكن الفرقاء يتسابقون لتقوية مواقفهم التفاوضية بعد أن أدركوا استحالة الحسم بالضربة القاضية. ولذلك تفاقم الوضع العسكري في الأسبوعين الأخيرين. وندد مجلس الأمن الدولي، الذي لم يدع رسميا لوقف الحرب، بما يجري قائلا ان التصعيد في مأرب «يهدد الجهود المبذولة للتوصل إلى تسوية سياسية في وقت تزداد فيه وحدة المجتمع الدولي (على هدف) إنهاء الصراع». هذا التطور مؤسس على احتمال دعوة مجلس الأمن لوقف إطلاق النار بعد أن فشل في اتخاذ موقف مسؤول طوال ستة أعوام من الحرب في هذا البلد العربي ذي التاريخ الحضاري العريق. وقد عين الرئيس الأمريكي جو بايدن، السيد تيم ليندركينغ مبعوثا خاصا للمساعدة في إحياء جهود الأمم المتحدة المتعثرة لوقف الصراع. وقال ليندركينغ يوم الجمعة الماضي إن هناك خطة لوقف إطلاق النار معروضة على قيادة الحوثيين. وكان وسيط الأمم المتحدة في اليمن مارتن غريفيث قد حذر الأسبوع الماضي من أن الحرب في اليمن «عادت بكل ضراوتها». وقال كل من غريفيث ومنسق الأمم المتحدة للمساعدات مارك لوكوك أيضا إن دخول واردات الوقود التجارية إلى ميناء الحديدة ممنوع منذ يناير – كانون الثاني وحث كلاهما الحكومة على السماح بعمليات التسليم. وعبر مجلس الأمن يوم الخميس عن «قلقه بسبب الوضع الاقتصادي والإنساني المتردي، والتأكيد على أهمية تسهيل وصول المساعدات الإنسانية، علاوة على دخول سفن الوقود إلى ميناء الحُديدة». هذه التطورات التصعيدية قد تكون مقدمة لوقف شامل لإطلاق النار بعد أن تأكد للجميع استحالة حسمها عسكريا.
وفي هذه المعمعة السياسية والعسكرية، تجدر الإشارة إلى ما يلي:
أولا: في البداية كان الأجدى عدم وقوع تلك الحرب التي شنها التحالف السعودي – الإماراتي بعد سيطرة «أنصار الله» على مناطق واسعة من البلاد من ضمنها العاصمة صنعاء، وهروب الرئيس عبد ربه منصور هادي الذي كانت فترة رئاسته قد انتهت في شباط- فبراير 2015 بعد تمديدها عاما واحدا. وصاحب اندلاع الحرب حملات إعلامية واسعة لتبريرها أولا، وتأكيد سيطرة القوات السعودية – الإماراتية على الوضع العسكري بشكل شبه كامل ثانيا، والتبشير بقصر مدتها وأنها لن تتجاوز بضعة أسابيع ثالثا. يومها كان التوازن العسكري بين الطرفين الرئيسين المعنيين بالنزاع المسلح مضطربا. فبينما كانت السعودية والإمارات تمتلكان ترسانة عسكرية عملاقة تشمل أحدث الطائرات والمدافع لم يكن لدى اليمنيين سوى سلاح بال من مخلفات النظام السابق وأسلحته الروسية. ومن المؤكد أن الحرب لو انتهت بالسرعة التي كان مخططوها يأملون، لتغير الوضع في اليمن جوهريا، ولهزمت جماعة «أنصار الله» ولاستطاع عبد ربه استعادة «الشرعية» التي أضفتها على شخصه ما سمي «المبادرة الخليجية» التي انطلقت إبان الثورة في العام 2011، وقضت بحصر التغيير بإزاحة شخص الرئيس واستبداله بنائبه.
ثانيا: بعد وقوع الحرب غير المتكافئة كان هناك فشل أخلاقي وإنساني وسياسي واضح من جانب المجتمع الدولي، وعلى الصعيدين العربي والإسلامي ايضا. فلم تنطلق الدعوات لوقف إطلاق النار، بل تم اعتماد وجهة النظر لدى القوى التي كانت تسعى لفرض واقع جديد في العالم العربي في مرحلة ما بعد الربيع العربي. وعلى مدى الأعوام الستة تُرك اليمنيون لشأنهم، تحت رحمة القصف الجوي المتواصل الذي أحدث دمارا واسعا في بلد الحضارة والتاريخ، وقتل أكثر من مائة ألف من الرجال والنساء والأطفال، أغلبهم من المدنيين. وبقي العالم يتفرج على ما يجري في تلك الزاوية من الجزيرة العربية. ولم يتحرك مجلس التعاون الخليجي، ولا الجامعة العربية، ولا منظمة المؤتمر الإسلامي. أما الأمم المتحدة ومجلس الأمن فقد تخليا عن دورهما وتراجعت مقولات الأمم المتحدة التي يفترض أن تمنع وقوع الحرب ضمن مقولات الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين. ويمكن القول إن حرب اليمن كانت من أقسى الدروس الإنسانية للبشرية، فقد أظهرت عجز هذا العالم عن احتواء الأزمات الحقيقية، وغياب إرادته وقت الحاجة عندما يقتضي الأمر إسكات أصوات الطائرات والمدافع واتخاذ ما يلزم لفرض إطلاق النار لوقف الحرب عندما تندلع.
ثالثا: إن غياب التوازن العسكري بين الأطراف المتحاربة في السنوات الأربع الأولى أضعف عامل الردع الذي يساهم في تحجيم الأعمال العسكرية وتراجعها وقد يوقفها كاملا. ولكن هذا التوازن عاد تدريجيا خصوصا في العامين الأخيرين، ليفرض واقعا جديدا يضغط على الأطراف التي شنت الحرب ابتداء. فقد استعاد اليمنيون قدرتهم على التصدي والمقاومة من جهة وعلى الإبداع في مجال التصنيع العسكري من جهة اخرى. وتحولت الحرب تدريجيا إلى فعل ورد فعل مواز حتى أصبحت محكومة بمعادلة «توازن الرعب» بين الأطراف المتحاربة. فلم يعد الجيش واللجان الشعبية التي تدار من جانب جماعة «أنصار الله» جامدة في الصراع، تنتظر نصيبها من الهجمات العسكرية، بل أصبحت فاعلة بشكل ملفت للنظر.
رابعا: إن التغير في أمريكا، برغم النظرة التشاؤمية لدى الكثيرين، سيؤدي إلى تغير في الموقف من الحرب اليمنية. فقد كرر الرئيس بايدن دعوته لوقف تلك الحرب مرارا. بدأ ذلك خلال حملته الانتخابية وتعهده بعدم توريط بلاده في صراعات إقليمية ليست مرتبطة مباشرة بالمصالح الأمريكية المباشرة. وأصبحت هذه التعهدات تلاحقه بعد وصوله البيت الأبيض، ويتوقع أن تتكثف الدعوات لذلك في الفترة المقبلة بعد أن ضج العالم من دوي معارك اليمن وأصبح محاصرا ببعض القيم الإنسانية الرادعة عن المشاركة فيها أو تزويد السلاح للأطراف المشاركة في استهداف اليمن وشعبه وحضارته. الأمر المؤكد أن هناك حالة عميقة من عدم الثقة بالسياسات الأمريكية التي تتقلب رأسا على ظهر بين الحين والآخر.
سيكون موقف بايدن هذه المرة مؤشرا لمدى إمكان إصلاح السياسات الامريكية وعمق القناعة الوجدانية بمنع نشوب الحرب والإسراع لانهائها حين تبدو عبثيتها. ستتواصل أنظار الكثيرين لتطورات الموقف الأمريكي في الأسابيع والشهور المقبلة، فذلك مؤشر لمدى جدية البيت الأبيض وقادته في الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين. فبعد ستة أعوام من الدمار حان الوقت لوقف الحرب بعد أن عم دمارها الجميع، شعب اليمن أولا والمجتمع الدولي الذي دمرت قيمه ومشاعره وقيمه مكتفيا بالصمت على الحرب التي احدثت اكبر كارثة انسانية في الوقت الحاضر.
صحيفة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2021/03/22