الكهرباء عنوان لأزمات سياسية غير معلنة
د. سعيد الشهابي
أصبحت الأوضاع الاقتصادية في لبنان تقترب من حافة الكارثة، وربما كان هذا أمرا متوقعا منذ أكثر من ثلاثة أعوام لأسباب عديدة، من بينها الفساد الإداري والحزبي بالاضافة للضغوط الخارجية الهادفة للتأثير على التناغم الداخلي القائم منذ انتهاء الحرب الأهلية.
الأمر الجديد أن هذه الأوضاع قد بلغت مستوى غير مسبوق، وأنها قد تؤدي لقطع امدادات الكهرباء الى هذا البلد المعذب. وما لم تقر اللجنة القانونية بالبرلمان ميزانية قدرها 200 مليون دولار أقرها الاعضاء فلن تستطيع الدولة شراء الوقود اللازم لتشغيل المحطات الكهربائية. فاذا تأخر هذا الإقرار فستقطع الكهرباء في منتصف هذا الشهر. ومع أن اللبنانيين اعتادوا انقطاع الكهرباء أكثر من ثلاث ساعات يوميا إلا أن الانقطاع الكامل سيكون له معنى آخر وأبعاد أخطر. فهل يعقل أن يصل أمر المنطقة الى هذا المستوى من اللامبالاة تجاه بلد عربي طالما كان أيقونة للحرية والنشاط الفكري لاجيال من المثقفين العرب. ولكن لبنان ليس وحده الذي يعاني من أزمة انقطاع الكهرباء. فالعراق، البلد النفطي العملاق، يعاني شعبه ايضا من الانقطاع المستمر للتيارالكهربائي. فمن يزور المدن العراقية يرى الأسلاك العشوائية المتدلية من كل زاوية. هذه الأسلاك تستخدم لتوصيل الطاقة من المولدات الخاصة عندما تنقطع الكهرباء المركزية. وإذا كان الوضع الاقتصادي هو السبب الأساسي لعدم قدرة لبنان على توليد الكهرباء بالمعدلات المطلوبة فإن العراق يعاني من ضعف إداري وفساد سياسي أدى لإضعاف قدرته على توليد ما يكفي من الطاقة الكهربائية لشعبه. وتعاني بلدان عربية اخرى من انقطاع الكهرباء. ومع دخول فصل الصيف فإن تبعات ذلك وخيمة على المواطنين الذين يعتمدون على الكهرباء بشكل كامل لتشغيل أجهزة التبريد التي تخفف من غلواء الحر.
لطالما شغلت قضية الطاقة بال العالم، وما تزال كذلك. فهل الصراع السياسي والعسكري في اليمن إلا أحد تجليات هذا الصراع والرغبة في السيطرة على باب المندب الذي تعبره عشرات الشاحنات النفطية العملاقة المتجهة بنفط الخليج الى أوروبا. وهل الدافع الأكبر لتواجد الأساطيل الأجنبية في مياه الخليج الا السعي لمنع غلق مضيق هرمز الذي يعتبر المعبر الأول للشاحنات النفطية من دول الخليج والعراق وإيران؟ وبرغم محاولات تجاوز هذه المعابر بمد خطوط أنابيب نفطية طويلة لتصل الى أوروبا او موانئ البحر المتوسط، فما يزال المضيقان المائيان المذكوران يمثلان اهمية بالغة للملاحة. الصراع على الطاقة من اسباب الحروب التي شهدتها المنطقة منذ 1948، عندما فُرض الكيان الإسرائيلي على الامة ليكون الموقع المتقدم في أي صراع مستقبلي لتأمين خطوط إمداد الطاقة. وجاءت حرب «تحرير الكويت» في هذا الإطار كذلك، ثم جاءت حرب العراق التي أسقطت نظامها السابق في العام 2003. وما إن وضعت داعش يديها على مناطق نفطية في العراق وسوريا حتى تدفق النفط بأسعار زهيدة الى الغرب. وبرغم تقليص الاعتماد على النفط العربي بتطوير انتاج النفط الصخري في أمريكا بشكل خاص، إلا أن الصراع سوف يستمر لضمان تدفق النفط من الشرق الأوسط الى دول العالم، شرقا وغربا. صحيح أن هناك جهودا كبيرة لتوفير مصادر بديلة للطاقة ومنها الطاقة الشمسية وطاقة الرياح ولكن سيظل النفط المصدر الأول للطاقة.
الأمر المؤلم هنا أن المنطقة التي هي المصدر الأول للطاقة أصبحت من أكثر مناطق العالم اضطرابا ونقصا في ما تحتاجه من طاقة كهربائية. فهل يعقل هذا؟ وهل ثمة مبرر منطقي لأن يعاني شعب لبنان او شعب العراق او شعب اليمن من نقص الطاقة بهذا المستوى المعيب؟
الأمر المؤلم هنا أن المنطقة التي هي المصدر الأول للطاقة أصبحت من أكثر مناطق العالم اضطرابا ونقصا في ما تحتاجه من طاقة كهربائية. فهل يعقل هذا؟
هل هناك مستوى من تدني الأداء السياسي والاقتصادي والإداري والأخلاقي أدنى مما بلغته اوضاع المنطقة؟ ويمكن القول إن أغلب بلدان العالم العربي يعاني من انقطاع الكهرباء، فمن العراق الى سوريا ولبنان واليمن الى مصر والسودان وليبيا والجزائر يعاني المواطنون من انقطاع التيار الكهربائي خصوصا في فصل الصيف الذي يرتفع فيه الطلب على الطاقة الكهربائية لتشغيل أجهزة التكييف. انها ظاهرة تنطوي على تناقض واضح. فالعالم العربي انما يتعرض للتآمر والحروب لأسباب من أهمها امتلاكه النفط، فكيف يصل الامر الى مستوى عدم توفر الكهرباء لأغلب شعوبه؟ لماذا لا يتم إنشاء محطات توليد كهربائية تعمل بالنفط او الطاقة الشمسية لتسد هذا الخلل الفاضح؟ كيف يمكن تطوير البنى التحتية اذا لم تتوفر الطاقة الكهربائية للمصانع والمنازل على حد السواء؟
في الأسبوع الماضي نشب خلاف بين فرنسا وبريطانيا حول حقوق الصيد البحري في مرحلة ما بعد بريكسيت. فجزيرة جيرسي التابعة لبريطانيا والقريبة من السواحل الفرنسية تتزود بالكهرباء من الجانب الفرنسي، وكانت قوارب الصيد الفرنسية تصطاد في مياه الجزيرة وفقا لأعراف قديمة. وفي الشهور الأخيرة نشب الخلاف حول حقوق الصيد وهددت فرنسا بقطع الكهرباء عن الجزيرة، الأمر الذي أثار القلق من احتمال تصاعد الأزمة. وهنا تظهر أهمية الطاقة في العلاقات الدولية. غير أن اوروبا منذ عقود سعت لإصدار مشترك للطاقة، وهناك مشاريع مشتركة للطاقة بين فرنسا وبريطانيا من غير المتوقع أن تتأثر بالخلاف الجاري. وهناك انتاج مشترك بين البلدين وكل من هولندا وبلجيكا وايرلندا يوفر 8 بالمائة من حاجات هذه البلدان. وهناك خطط لتوسيع سعة الكابلات بين بريطانيا والنرويج والدنمارك وهولندا وبلجيكا. هذا التعاون يكشف توجه سياسات الدول الغربية لتأمين احتياجاتها من الطاقة عن طريق التعاون والانتاج المشترك وتبادل الخبرات. بينما يندر وجود مثل هذه الخطط لدى دول الشرق الأوسط. بل هناك تسييس لاي تعاون بين البلدان المتجاورة في هذا المجال. ان المفترض أن يكون هناك تعاون طبيعي بين دول المنطقة لكي يعيش سكانها بمستويات متقاربة من الاستهلاك خصوصا في مجال الطاقة. فمن غير المنطقي أن يقتصر التعاون على الجانب الأمني تحت عناوين فضفاضة كمكافحة الجريمة والإرهاب، بينما تبقى المصالح الحيوية للشعوب معطلة لاعتبارات سياسية.
وثمة بعد آخر للتوسع في مجال انتاج الطاقة الكهربائية. فهو يوفر القدرة لتطوير البنية التحتية للبلد ويسهل خطط التنمية والتصنيع لديها. كما يساهم في تطوير خطوط الإمداد الكهربائي ويساعد على انتاج كابلات عملاقة لنقل الكهرباء عبر الحدود. ومن شأنه كذلك ان يحسّن الاجواء بين الدول ويخفف التوتر على حدودها المشتركة. ولذلك تسعى القوى التي يسوؤها تمتين اواصر الأخوّة بين الدول العربية لعرقلة التعاون في مجال الطاقة الكهربائية. ولطالما استهدفت محطات التوليد بأعمال إرهابية لخلق الآزمات الداخلية بهذه البلدان. فما أكثر حالات تفجير محطات التوليد في العراق وسوريا. وبدلا من الاستغلال الجيد للطاقة النفطية في عملية توليد الكهرباء، هرع بعض الحكومات نحو بناء محطات توليد تعمل بالطاقة النووية برغم ما تعتري هذا المسار من مخاطر سياسية وبيئية واقتصادية. وقد يكون من أخطر تبعات ذلك إخضاع الدول للرقابة الدولية وشروط الدول المصنعة للتكنولوجيا النووية. وهكذا تتضح صورة الوضع العام في العالم العربي بشكل مقلق: بين دول لا تستطيع انتاج ما يكفيها من الكهرباء لأسباب اقتصادية ودول تمتلك فائضا من الانتاج وتسعى لتوليد المزيد منه بالطاقة النووية برغم مخاطرها. الامر يحتاج لتدبر حقيقي يضع حدا لهذا الوضع الذي لا يحظى عادة باهتمام إعلامي او سياسي مناسب..
جريدة الفدس العربي
أضيف بتاريخ :2021/05/10