فلسطين: قمة شاهقة لا يبلغها كيد العدو
د. سعيد الشهابي
من يقتل الفلسطينيين؟ من يتآمر ضدهم؟ من يريد فناءهم؟ إنه كل من يقف مع «إسرائيل» بالدعم المباشر أو الاعتراف أو تبادل الابتسامات مع زعمائها أو مصافحتهم، وكل من يستمر في علاقات طبيعية مع داعمي كيان الاحتلال بشكل مباشر كالولايات المتحدة، وكأن شيئا لم يكن. ومن المشاركين ايضا من يلتزم الصمت من الناحية العملية، والرهان على عامل الوقت لإضعاف المقاومة الفلسطينية حتى تستسلم. وتحت هذا العنوان ينضوي أغلب الأنظمة العربية التي التزمت ما يشبه الصمت وأن تحدث بعضها بما يوحي بالإيجابية.
لم نسمع حتى الآن أن حكومة عربية ممن ساهم في كسر جبهة المقاطعة سحبت سفيرها من تل أبيب أو طردت سفير الاحتلال من عواصمها. فهل هناك خذلان لشهداء العدوان الإسرائيلي أكبر من ذلك؟ ألن يختلف الوضع لو قررت الدول العربية طرد سفراء الدول الداعمة للكيان الإسرائيلي خصوصا الولايات المتحدة؟ أليس الموقف الأمريكي الثابت بدعم الاحتلال وضمان تفوقه الاستراتيجي على الجانب العربي، من أهم تجليات الدعم والتصلب والإرهاب الإسرائيلي؟
فبينما كانت حمم العدو تهطل على منازل الآمنين وتدمر الأخضر واليابس كان الرئيس الامريكي الذي تم ترويجه بأنه «إصلاحي» و«ديمقراطي» و«حقوقي» يكرر تصريح من سبقه من رؤساء امريكا مبررا العدوان الإسرائيلي بانه دفاع مشروع عن النفس، وكأن بضع احتجاجات في القدس ستقتلع الاحتلال. فلو كانت هناك صحوة ضمير ولو مؤقتة من جانب النظام الرسمي العربي وقرار بتجميد العلاقات مع امريكا وكل من يدعم الاحتلال والعدوان، أكان نتنياهو سيواصل عدوانه بالمستوى نفسه من الوحشية؟ فلو أن روسيا مثلا قامت بقصف دولة أوروبية كبلجيكا مثلا، أكان الأوروبيون سيواصلون علاقاتهم معها وكأن شيئا لم يكن؟ لماذا يسترخص النظام السياسي العربي دماء أهل فلسطين؟ لقد قضى العدوان الحالي على حلم الكيان الإسرائيلي بفرض إرادته واحتلاله على اراضي فلسطين، ووجه ضربة لقوى الثورة المضادة التي هرولت حكوماتها للتطبيع مع الاحتلال.
لقد راهنوا على موت القضية وانتهائها، فاستمرارها تعرية لهم وتهديد لوجوداتهم المفروضة على الشعوب بالقوة. ولطالما وقفوا ضد قوى المقاومة التي آلت على نفسها أن لا تستسلم أو تخضع أو تعترف بالاحتلال أو تتصالح معه. فكم من الفلسطينيين معتقل في السجون العربية؟ ألم تخرج الاحتجاجات والتظاهرات مطالبة بالإفراج عن الفلسطينيين المعتقلين في الجزيرة العربية؟ مشكلة قضية فلسطين أنها تأبى أن تموت برغم مرور حوالي ثلاثة أرباع القرن على حدوثها.
والمشكلة الأخرى التي تواجه النظام الرسمي العربي افتقاده للشرعية الشعبية التي تمنحه الشعور بالقوة وتوفر له اتخاذ موقف حقيقي يدعم فلسطين ويضغط على القوى الضالعة في اضطهاده. أما المشكلة الثالثة فهي أن استضعاف الفلسطينيين من قبل الأنظمة العربية واللامبالاة الرسمية تجاه القضية أصبح رسالة واضحة لقوات الاحتلال شجعته على تصعيد الاضطهاد والاستضعاف. وبعد تعاقب الأجيال الحاكمة ازداد النظام العربي ضعفا، وتعمقت ظاهرة الاستبداد وتهميش الشعوب، ما أدى الى تغول العدو واعتقاده (الخاطئ) بأن قضية فلسطين ستموت تدريجيا وتتوارى عن الانظار. وبموازاة ذلك ساهمت «الحرب الناعمة» في التأثير على التوجهات الفكرية والسياسية لدى الأجيال العربية الجديدة التي أصبحت أقل اهتماما بالقضية. كما أن ظهور امبراطوريات إعلامية يمولها الدولار النفطي ساهم في تهميش القضية نتيجة سياسات إعلامية موجهة ضد الوعي السياسي وقيم الوحدة والعمل الجماعي والمصير المشترك. كل ذلك عمّق الشعور لدى قوات الاحتلال بأن بإمكانها القضاء على القضية تماما. لذلك تم تهميش ما يسمى «مشروع الدولتين» ورفضت حكومة نتنياهو القبول بخيار سياسي يفضي الى قيام دولة فلسطينية مستقلة. وشجعته سياسات الدول التي هرولت للتطبيع معه على ضم أراض فلسطينية في الضفة الغربية إلى الكيان الغاصب، وكذلك أراضي الجولان التي احتلتها من سوريا في العام 1967.
سجلت المقاومة الفلسطينية في العدوان المستمر اختراقات عسكرية غير مسبوقة. فللمرة الأولى تصل صواريخ المقاومة إلى تل أبيب، وتسجل إصابات مباشرة في العمق الإسرائيلي
لقد ساهمت «الحرب الناعمة» التي تشنها الدول الغربية في تهميش دور الجماهير العربية في مشروع التحرير والنضال من أجل فلسطين. ومن المؤكد أن هذه ظاهرة مؤقتة سرعان ما تتغير بتغير ظروف الحكم. ويمكن تسجيل حقيقة واضحة: أن الدول التي تتمتع بقدر من الحرية والديمقراطية تنتج توجهات تحررية ومواقف داعمة للحق الفلسطيني ورافضة للاحتلال. فالحكومة التونسية أعلنت بوضوح دعمها الفلسطينيين ودعت، ومعها النرويج والصين، لعقد جلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي لمناقشة العدوان الإسرائيلي.
وكان رئيسها، قيس سعيد قد حيا الصمود الفلسطيني قائلا أن «موقف تونس من العدوان على القدس الشريف، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، هو موقف يتجاوز التنديد والشجب المعهودين وما إلى ذلك من العبارات، التي مجّها (سئمها) أحرار الأمة وكل الأحرار في العالم، بل هو تحية لصمود الشعب الفلسطيني».
وتميّز موقف اليمن بشكل واضح، حيث خرجت أكبر تظاهرات داعمة في صنعاء وصعدة، هتفت باسم فلسطين وأكدت رفضها الاحتلال بشكل قاطع. ويسعى مجلس الأمة الكويتي لاتخاذ مواقف داعمة للفلسطينيين وشجب العدوان الإسرائيلي، ونظم بعض مواطنيه وقفة احتجاجية محدودة ضد العدوان الإسرائيلي. وخرجت مسيرات عديدة في البحرين تدعم صمود اهل فلسطين وتطالب بطرد السفير الإسرائيلي من البلاد. مع ذلك يمكن القول بأن ردود الفعل العربية والاسلامية إزاء ما يجري في فلسطين ما تزال باهتة. ومن المؤكد أن إعادة توجيه الإعلام العربي الرسمي بعيدا عن الاهتمام بقضايا الامة، وتهميش قضية فلسطين بالاضافة لتغول ظاهرة الاستبداد والقمع في أغلب أقطار العالم العربي، من العوامل التي أضعفت التفاعل الشعبي مع القضية. وهذا الأمر ليس عفويا بل يعتبر واحدا من أهداف قوى الثورة المضادة التي تعتبر قضية فلسطين أحد مصادر رفد المشاعر الثورية لدى الأجيال العربية. كما أن تغييب القيادات التحررية والإسلامية وراء القضبان حرم الجماهير من قيادات ميدانية فاعلة لإعلان الغضب الشعبي ضد الاحتلال من جهة وأدى لغياب التوجيه المعنوي من ناحية اخرى. وهذا ناجم عن سياسات التعاون بين قوات الاحتلال والأنظمة العربية السائرة على طريق التطبيع مع «إسرائيل».
يمكن القول إن هذه الجولة من العنف التي بدأتها «إسرائيل» ستساهم في تحديد مآلات قضية فلسطين. وستكون الأيام المقبلة حاسمة في هذا الجانب. فان استطاع الفلسطينيون الثبات والصمود أمام العدوان الصهيوني فسوف يكون ذلك ضربة جديدة يضاف لما حققته في انتصارات ضد العدوان الإسرائيلي في 2006 و2009 و2014. وقد سجلت المقاومة الفلسطينية في العدوان المستمر اختراقات عسكرية غير مسبوقة. فللمرة الأولى تصل صواريخ المقاومة إلى تل أبيب، وتسجل إصابات مباشرة في العمق الإسرائيلي. أما إذا استطاعت القوات الصهيونية كسر إرادة المقاومين (وهذا مستبعد جدا) فستكون النتائج مختلفة. الأمر المؤكد أن الإسرائيليين فوجئوا بردود الفعل الأولية من الجانب الفلسطيني الذي استطاع اختراق منظومة «القبة الحديدية» التي يتبجح بها زعماء الاحتلال، ويعولون عليها لحماية المستوطنين والمحتلين. أما الأمر الآخر فيتجسد بوحدة قوى المقاومة الفلسطينية، على تعدد فصائلها، وارتباطها بعناصر المحور الأخرى. وثمة توسع بدائرة المقاومة للاحتلال، وهي ظاهرة لم يكن داعمو الكيان يتوقعون حدوثه. ولذلك فمن المتوقع حدوث حالة استقطاب واسعة في بلدان العالم العربي، بين القوى الداعمة لفلسطين وأهلها، والأنظمة المهرولة للتطبيع.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2021/05/17