العرب والاتحاد الأوروبي قد يكونان المستفيد الأكبر من الخروج البريطاني
عبد الباري عطوان ..
رجحت كفة اليمين المتطرف في الاستفتاء، وصوّت البريطانيون بأغلبية ضئيلة للخروج من الاتحاد الأوروبي، مما يعني، وللوهلة الأولى، احتمال تفكك هذا الاتحاد أولا، والمملكة المتحدة ثانيا.
وإذا كان الاحتمال الأول، أي تفكك الاتحاد الأوروبي غير مؤكد، فان تفكك الاتحاد البريطاني بات وشيكا، فالنزعات الانفصالية في اسكتلندا وايرلندا الشمالية وويلز بدأت تبرز بقوة، وتعالت الأصوات التي تطالب بالاستقلال (في اسكتلندا) والانضمام إلى جمهورية ايرلندا الجنوبية (ايرلندا الشمالية)، وبات في حكم المؤكد أن نرى اسكتلندا، على الأقل، دولة مستقلة وعضو في الاتحاد الأوروبي في غضون السنوات الخمس المقبلة على أكثر تقدير، حيث صوت أكثر من 70 بالمئة من مواطنيها لصالح “البقاء”.
خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قد يكون نكسة للاتحاد على المدى القصير، ولكن الحال ربما لا يكون كذلك على المدى البعيد، لأنها كانت دائما العضو “الصعب” المتَشّرط فيه، وتستغل حاجته إلى الوحدة والتماسك لتطالب بالكثير من التنازلات، حتى أن الكثير من الأوروبيين، وفي ظل هذا “الابتزاز″ البريطاني يرى أن تشارلز ديغول، زعيم فرنسا العظيم، كان على حق عندما ظل يعارض انضمام بريطانيا للسوق المشتركة في حينها، ويرى أنها ستتقدم بشكل أسرع وأفضل بدونها.
***
البريطانيون أطلقوا النار على أرجلهم بالسقوط في مصيدة “التخويف” التي مارسها اليمين العنصري المتشدد لدفعهم إلى التصويت لصالح الخروج، والتلويح بأخطار الهجرة، وتزوير الحقائق في هذا الخصوص، مثل التريكز على خطر “الإسلام” ضمنيا، وانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وتركيبته الديموغرافية، لان تعدادها يقترب من 80 مليون نسمة، غالبيتهم الساحقة من المسلمين، رغم أن الوقائع تقول عكس ذلك، لأن هذا الانضمام لن يتم قبل خمسين عاما، أن لم يكن أكثر، بسبب المعارضة القوية له من دول أوروبا الكبرى، خاصة فرنسا التي تتمسك بالهوية المسيحية البيضاء للاتحاد الأوروبي.
بريطانيا ستتقزم، وقد لا يبقى منها إلا انكلترا القديمة، وستفقد مكانتها كمركز مالي عالمي، مثلما ستفقد تأثيرها في كتلة سياسية واقتصادية عظمى مثل الاتحاد الأوروبي الذي تذهب نصف صادراتها إليه، ويشكل توازنا استراتيجيا بين العملاقين الروسي والأمريكي.
وللحقيقة، والتاريخ، أن بريطانيا التي انضمت رسميا للاتحاد عام 1975 بعد استفتاء دعا إليه رئيس وزرائها ويلسون في حينها لم تكن تريد مطلقا أن تكون أوروبية، وترى أن الاتحاد الأوروبي خاضع للهيمنة الألمانية الفرنسية، وتمسكت بعقلية أهل الجزر ذات النزعة الانعزالية، ووضعت رجلا في أوروبا، والأخرى في أمريكا، التي حرصت على إقامة علاقات خاصة معها، فقد رفضت الانضمام إلى العملة الأوروبية الموحدة (اليورو)، مثلما رفضت العمل باتفاقية “شنغن” التي تسهل حرية الحركة، وساهمت بنصيب مالي متواضع لإنقاذ دول أوروبية من الإفلاس مثل اليونان والبرتغال وايرلندا بالمقارنة مع ألمانيا.
بالنسبة إلينا كعرب ومسلمين، فإن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ضار ومفيد في الوقت نفسه، ولكن الفائدة ربما تكون اكبر بكثير من الخسارة.
الجالية العربية والإسلامية ستكون متضررة حتما من هذا الخروج البريطاني، لأنها ستكون أحد أبرز ضحايا اليمين العنصري المتطرف المعارض للهجرة والمهاجرين بقوة، حتى لو كانوا من دول أوروبية بيضاء، مثل رومانيا وبلغاريا، ناهيك عن المسلمين أو السوريين منهم، كما أن هذه الجالية قد تواجه في المستقبل عقبات على صعيد حرية التنقل، على غرار ما يحدث حاليا في الولايات المتحدة ودول أخرى مثل استراليا ونيوزيلندا، لأن جواز السفر البريطاني لم يعد وحده كافيا لركوب الطائرة دون التقدم للحصول على أذن مسبق، تحت مسميات متعددة، طالما أن أصلك غير بريطاني، ولون بشرتك غير بيضاء، والذريعة هي الخوف من الإرهاب، مضافا إلى ذلك أن حرية التملك والإقامة والعمل في دول الاتحاد الأوروبي الـ 27 قد تتبخر في المستقبل القريب.
أما على الصعيد العربي والإسلامي الأشمل، فإن بريطانيا الصغيرة الضعيفة المعزولة أمر جيد، لأن حكوماتها، عمالية كانت أو محافظة، ظلت دائما خاضعة للنفوذ الصهيوني، وتدعم إسرائيل بكل قوة، وتنحاز دائما للحروب الأمريكية ضد العرب والمسلمين، والتدخل العسكري في شؤونهم، وتغيير أنظمتهم، ومخططات تفتيتهم، وعملت طوال الثلاثة والأربعين عاما من عضويتها في الاتحاد الأوروبي على كبح جماح أي توجه لانتقاد إسرائيل وسياساتها العنصرية، وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة، ومحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين أمام محكمة الجنايات الدولية، ورفضت الاعتذار والتعويض للعرب عن منحها فلسطين لليهود، وتسهيل قيام دولة إسرائيل، حتى أن ديفيد كاميرون رئيس وزرائها الحالي، صاحب الاستفتاء الذي لحق الأذى بنفسه وبلاده، وصف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بأنه دفاع عن النفس، وكان خلف قرار غزو ليبيا، مثلما كان سلفه توني بلير من أكبر المؤيدين لغزو العراق واحتلاله.
***
البريطانيون الذين صوتوا لخروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي، ربما يكونوا، ودون أن يدروا، قدموا الخدمة الأكبر لهذا الاتحاد الأوروبي الذي عانى طويلا من هذا العضو البريطاني المشاغب والمدلل، بل والمبتز، والحقوا ببلادهم واقتصادها ووحدتها الداخلية ضررا كبيرا، سينعكس عزلة وخسائر اقتصادية في المستقبل المنظور، ولا نستبعد أن يتم تجريد بريطانيا من عضويتها الدائمة في مجلس الأمن الدولي، فلماذا تستمر فيها بعد انكماشها؟
بريطانيا فقدت “عظمتها” عندما خسرت مستعمراتها، وستفقد الآن ما تبقى منها نفسيا، بخسارتها لعضوية كتلة قوية سياسيا واقتصاديا مثل الاتحاد الأوروبي، وستعود إلى وضعها الذي كانت عليه قبل 400 عام، أي انكلترا الصغيرة الطاردة للسكان، بسبب فقرها وقلة مواردها.
إنها ضحية شعور كاذب بالعظمة لدى أهلها، وحالها كحال العجوز المتصابية التي ترفض أن تعترف بالتجاعيد، وآثار الزمن عليها، وتتمسك بغرورها ودلالها، بل عجرفتها أيضا، ولعل هذه النتيجة الصادمة وتداعياتها المتوقعة تعيدها إلى رشدها.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2016/06/25