جذور أزمات الشرق الأوسط تمتد لوعد بلفور
د. سعيد الشهابي ..
القرار الذي اتخذته بريطانيا قبل 99 عاما بالعمل لإيجاد وطن قومي لليهود في فلسطين أدى لواحدة من أبشع الأزمات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط وما تزال تعيش تبعاتها حتى اليوم. صدر وعد بلفور في ذروة إمبراطورية بريطانيا العظمى» عندما كانت القوة العالمية الأولى دون منازع. يومها كانت الحرب العالمية الأولى تدور رحاها بوحشية غير مسبوقة.
وبرغم معاناة الجنود في الخنادق على كافة الجبهات واختناقهم بالأسلحة الكيماوية وسقوط الآلاف منهم ضحايا للنزاع الناجم عن الأطماع والرغبة في التوسع، كان الساسة البريطانيون مهتمين بتغذية الصراعات في مناطق العالم من الشرق إلى الغرب. يومها كان ما يسمى «الثورة العربية الكبرى» مشروعا غربيا يهدف لإسقاط الجسد المنهك للدولة العثمانية. كانت ثورة مسلحة ضد الخلافة العثمانية، بدأت في الحجاز بطلقة من الشريف حسين في 2 حزيران/يونيو1916 في مكة المكرمة. وكان لدوي تلك الطلقة صدى في جدة والطائف والمدينة.
وامتدت الثورة ضد العثمانيين بعد إخراجهم من الحجاز حتى وصلت سوريا والعراق. ونص ميثاق دمشق و مراسلات الحسين مكماهون على «خلع طاعة الدولة العثمانية، وإقامة دولة عربية، أو إتحاد دول عربية يشمل الجزيرة العربية ـ نجد والحجاز على وجه الخصوص ـ وسوريا الكبرى ـ عدا ولاية أضنة التي اعتبرت ضمن سوريا في ميثاق دمشق ـ مع احترام «مصالح بريطانيا في جنوب العراق». وتمكنت الثورة بقيادة فيصل بن الحسين بالتعاون مع مسلحي القبائل من تحقيق انتصارات عسكرية، وكسر الجيش العثماني على طول خط القتال الممتد من المدينة المنورة وحتى دمشق. ودخل الجيش البريطاني بقيادة الجنرال إدموند ألنبي من سيناء إلى فلسطين ومنها على طول الخط الساحلي حتى لواء إسكندرون؛ وفي آخر أيلول/سبتمبر 1918 انسحب العثمانيون من دمشق، وقبلوا في هدنة مودروس، ثم نهائيا في معاهدة سيفر، التنازل عن أملاكهم في نجد، والحجاز، وسوريا، والعراق، وكيليكيا، ومصر.
وما أن انتهت الحرب حتى وجد العرب والمسلمون أنفسهم مطالبين بدفع فواتيرها. وما هي إلا بضع سنوات حتى تلاشت «الخلافة الإسلامية» واستبدلت بنظام يبالغ في تبعيته للغرب فكرا وثقافة، ويبتعد تدريجيا عن حواضنه الإسلامية في الشرق. ونجم عن ذلك توسع النفوذ الاستعماري في البلدان العربية وشمال أفريقيا لتبدأ بذلك مرحلة التفتت والنزاعات البينية التي ما تزال نيرانها مشتعلة حتى اليوم. وإذا كان قيام «الدولة القطرية» المصداق الأوضح لذلك السقوط الناجم عن التدخل الغربي خصوصا البريطاني في شؤون المنطقة، فان مخططات ذلك التدخل لم تتوقف أبدا. بل أصبحت النزعات العرقية تفرض نفسها على العالم الإسلامي على أوسع نطاق. فالأكراد يبحثون عن كيان مؤسس على قوميتهم، والبربر يتطلعون للانفصال عن «الشمال العربي» في الجزائر. والصراع على الصحراء الغربية يقض مضاجع حكام المغرب. وبرغم هدوء الأزمة إلا أن هناك من يغذيها باستمرار لكي يستكمل مشروع تفتيت الأمة من داخلها.
فلا يكفي وجود نزاع مسلح واحد محصور بليبيا التي تستعصي على الاستقرار، بل لا بد من إشعال بقية المنطقة. وتؤكد وقائع التاريخ أن إشعال النزاعات أسهل من إطفائها أو احتواء آثارها.
لماذا وعد بلفور؟ ولماذا استهداف الأقليات بالتحريض والدفع باتجاه الانفصال؟
وهل ان بريطانيا تدفع ضريبة سياسة الانفصال والفرقة بعد ان صوت مواطنوها للانفصال عن أوروبا؟ في الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر 1917 كتب وزير الخارجية البريطانية، جيمس آرثر بلفور، رسالة إلى وولتر روتشايلد، أحد زعماء الطائفة اليهودية في بريطانيا، وطلب منه ايصالها إلى الاتحاد الصهيوني في بريطانيا وايرلندا قال فيها: «إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة مقام (وطن) قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر». ونظر الكثيرون إلى تلك الخطوة أنها تكفير عن الاضطهاد الذي عاناه اليهود في أوروبا، ذلك الاضطهاد الذي سيتطور لاحقا حتى يبلغ ذروته على يدي هتلر في ألمانيا قبيل الحرب العالمية الثانية وخلالها.
فإذا كانت الحرب العالمية الأولى قد شهدت الوعد المذكور، فان نهاية الحرب العالمية الثانية شهدت تفعيل ذلك الوعد، بتسليم بريطانيا الهيمنة على فلسطين لليهود الذين أعلنوا في الحال قيام الكيان الإسرائيلي. وعند صدور الإعلان المشؤوم كان اليهود في فلسطين لا يشكلون أكثر من 5 بالمائة. وقد أطلق على ذلك الإعلان «وعد من لا يملك لمن لا يستحق». وما تزال النظريات تطرح لتفسير تلك الخطوة البريطانية خصوصا أن بلفور نفسه كان معادياً لليهود، وأنه حينما تولى رئاسة الوزارة البريطانية بين عامي 1903 و1905 هاجم اليهود المهاجرين إلى إنكلترا لرفضهم الاندماج مع السكان واستصدر تشريعات تحد من الهجرة اليهودية لخشيته من التبعات السلبية التي قد تلحق ببلاده. كما كان لويد جورج رئيس الوزراء لا يقل كرهاً لأعضاء الجماعات اليهودية عن بلفور، تماماً مثل تشامبرلين قبلهما، والذي كان وراء الوعد البلفوري الخاص بشرق أفريقيا.
ثمة حقيقة لا يلتفت اليها الكثيرون، بل تضيع في غمرة الضجيج الإعلامي والهيمنة السياسية والامنية، وإلهاء الشعوب عامة عن قضاياها الجوهرية. فوجود «المؤسسة» الحاكمة في بريطانيا، يتضارب مع جوهر المشروع الديمقراطي. فـ «المؤسسة» هي التي تدير آلة الدولة، ولا تسمح بتغيير مساراتها إلا ضمن دوائر محدودة. ولكن هذه الحقيقة تغيب عن الكثيرين، حتى ليعتقد المواطن العادي انه «صاحب القرار» النهائي بشكل مطلق. والحقيقة أن هذا المواطن يتمتع بنصيب محدود في صنع القرار، ولكن «المؤسسة» هي الأداة الحقيقية لقضايا السلام والحرب والتحالفات وحماية المصالح.
ويمكن القول إن وعد بلفور كان قرارا من المؤسسة الحاكمة في بريطانيا برغم انشغالها يوم ذاك بالحرب الكونية الهائلة. ومن الضرورة بمكان التطرق لظروف القرار وتفصيلاته وتبعاته، ولكن الأهم أن يكون هناك وعي عام لدى الشعوب والنخب العربية بديناميكية السياسة الدولية ودور اللاعبين التقليديين فيها، ومناقشة مدى ما يمكن عمله في ظل هذا الأخطبوط الفاعل الذي يوجه سياسات العالم. وحالة الغليان التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط لا تنفك عن القرار الذي اتخذ قبل قرن من الزمن، وهو القرار الذي أدى بعد أربعين عاما لقيام الكيان الإسرائيلي في قلب الأمة ليكون العامل الأهم لإبقائها عاجزة عن تحديد مصيرها أو صناعة قراراتها.
وثمة إجماع على أن قضية فلسطين تمثل أساس الاضطراب السياسي في المنطقة، وان ذلك الاضطراب مطلوب ليستمر النفوذ والهيمنة. ولذلك يقول المحللون الواعون أن الشرق الأوسط لن يستقر ما دامت قضية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين عالقة.
وعد بلفور تحول إلى واقع بعد أربعة عقود من صدوره، فعلى أساسه قام الكيان الإسرائيلي وبدأت محنة الشعب الفلسطيني. وبرغم الإخفاقات التي واجهها العرب والمسلمون الباحثون عن حل لتلك المشكلة، فان بقاءها بدون حل دائم يعني استمرارها من جهة وبقاءها مصدرا للوعي الشعبي بحثا عن الحرية والحقوق من جهة أخرى.
والواضح أن استمرار قضية فلسطين عامل مهم لتفجر قضايا وأزمات أخرى في المنطقة.
فإذا كانت سبل الهجرة غير متوفرة للفلسطينيين بعد قيام كيان الاحتلال، فإن الأزمات المتجددة خصوصا الحالية منها توفرت لها مسارات عديدة لتسهيل مهمة هجرة ابنائها بحثا عن مأمن وعيش آمن. وأصبح على الغرب أن يتحمل تبعات ذلك بشكل عملي.
صحيح أن الهجرة في بعض حالاتها مرتبطة بالأوضاع الاقتصادية للبلدان العربية والأفريقية، ولكن الصحيح أيضا أن استمرار الاضطراب السياسي والعسكري والأمني لا يقل أهمية كعامل دافع نحو الهجرة الجماعية باتجاه الغرب. وحتى الآن لا يبدو الغربيون قادرين على استيعاب حقيقة جوهرية بان هذه الهجرة ناجمة، بشكل كبير، عن تدخلاتهم العسكرية أو السياسية في المنطقة، وكذلك لغياب الاستقرار والأمن الناجمين عن انعدام الحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.
فكما أن أزمة اليهود قبل مائة عام كانت بسبب الاضطهاد الذي عانوه في البلدان الغربية، فان تدفق اللاجئين في الوقت الحاضر ناجم عن سياسات مماثلة.
هذه السياسات تحول دون استيعاب الغربيين للحقيقة التي كررها المحللون والسياسيون بان استمرار قضية فلسطين تعتبر مصدرا أساسيا للتوتر السياسي في الشرق الأوسط، وأنه ما لم تحل بشكل عادل فسيتواصل الاضطراب والتوتر. المشكلة أن بريطانيا، بدلا من العمل على هذا المحور ما تزال تواصل سياساتها القديمة، الأمر الذي يحول دون أمن المنطقة واستقرارها، ويمهد لانتشار التطرف والعنف.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2016/11/07