معالم الصراع الحضاري المقبل ترسمه أوضاع أوروبا
د. سعيد الشهابي ..
عندما طرح صمويل هنتنجتون قبل ربع قرن نظريته حول الصراع العالمي المقبل، سعى الكثيرون لتفنيدها لأسباب عديدة. أولها أن الغرب يومها كانت له اليد السياسية والعسكرية الطولى في العالم، وهو ليس بحاجة للدخول في صراع من هذا النوع. ثانيها: أن سقوط الاتحاد السوفياتي كان مدويا، فقد تفكك إلى جمهوريات صغيرة وتلاشى بريق الشيوعية، وبذلك لم يعد هناك ما يشير إلى احتمال تبلور منافس للحضارة الغربية. ثالثها: أن حرب الكويت 1991 كشفت عن ذراع أمريكية طويلة، فقد كانت فصولها تبث للعالم بشكل مباشر، وكانت شاشات سي أن أن وهي تبث مشاهد القصف حال وقوعها منذ اللحظات الأولى للحرب الجوية إعلاما مفاجئا للجميع لم يشهد العالم مثيلا له من قبل. وبدا للكثيرين أن الغرب كسب الحروب العسكرية والإعلامية والفكرية، ولم يعد هناك من ينافسه، وبالتالي فليس هناك أفق لحرب الحضارات التي تنبأ بها هنتنجتون.
رابعها: أن الغربيين روجوا كثيرا لمشروع «الديمقراطية الليبرالية» كنظام سياسي عالمي يمثل ذروة ما بلغته التجربة الإنسانية في مجال الحكم والسياسة. وهذا ما أكده مفكر آخر آنذاك هو فرانسيس فوكوياما. خامسها: أن العالم الإسلامي الذي شهد صعود ظاهرة «الإسلام السياسي» بقيام أول نظام إسلامي في إيران يحظى بدعم جماهيري كان يبدو مثخنا بالجراح بعد الحرب الانجلو أمريكية في الكويت. وكان الكيان الإسرائيلي يومها يسرح ويمرح في الساحتين السياسية والعسكرية. فبالإضافة لهيمنته على حدوده كان قد تمكن من تحقيق اختراق سياسي كبير بتوقيع اتفاقات أوسلو وترسيخ مقولة «الحل السلمي» الذي أضعف الأطروحات الأخرى التي تقول بإنهاء الاحتلال وإسقاط ما يسمى «دولة إسرائيل». يومها كانت ظاهرة «الإسلام السياسي» تمر بمفترق طرق خطير، بين من يدعو لهوية إسلامية مستقلة بشكل كامل، ومن يستعين بالغرب ضد نظامي إيران والعراق اللذين كانا مثخنين بالجراح بعد أطول حرب شهدتها المنطقة.
وفجأة وجدت أمريكا فرصة للعودة للمنطقة نتيجة تطورات ثلاثة: أولاها استعانة الكويت بالسفن الأمريكية لمصاحبة سفنها النفطية في الشهور الأخيرة قبل توقف الحرب العراقية ـ الإيرانية في 1988، ثانيتها: صدور الفتوى التاريخية الشهيرة عن مؤتمر عقد بحضور أكثر من 400 من علماء الدين في مدينة جدة السعودية في أكتوبر/تشرين الأول 1990 يجيز الاستعانة بالقوات الأجنبية لشن الحرب على العراق بقيادة صدام حسين، وتراجع الحماس الجماهيري ضد التدخل الأجنبي، الذي شهدته العواصم العربية في الشهور الفاصلة بين دخول القوات العراقية الكويت في 2 أغسطس/آب 1990 والحرب الجوية التي كسرت ظهر القوات العراقية.
لماذا هذا الكلام؟ ربع قرن من الزمن غير الكثير من هذه الحقائق والوقائع، وأعاد السجال مجددا لمقولة صراع الحضارات. وقد يبدو أنه سيكون بين الغرب والمجموعات الإرهابية التي تعربد فسادا وقتلا في المنطقة. ولكن الحقيقة أن الصراع هذه المرة سيتجاوز الشرق الأوسط وسيكون، كما تنبأ به هنتنجتون، بين الغرب والقوى الناهضة في آسيا، خصوصا الصين.
وما المخاضات التي تشهدها المنطقة إلا أحد وجوه الأزمة التي تعتمل تحت الرماد، في غياب الاهتمام الدولي الاستراتيجي المطلوب لتفاديها. فثمة قناعة لدى المحللين الاستراتيجيين، ومنهم هنري كيسنجر، بأن النظام العالمي الذي قام على أنقاض الحرب العالمية الثانية بدأ يتهاوى، وأن العالم على عتبة حقبة من الاضطراب والفوضى. البعض يعزو ذلك لضعف إدارة باراك اوباما، والبعض الآخر يفسرها بعزوف أوروبا عن لعب دور فاعل على الصعيد الدولي. وثمة رأي ثالث يعتقد بأن مرحلة الهيمنة الغربية بدأت تتراجع وأن قوى أخرى مثل روسيا والصين والهند تزداد نفوذا. وقد دفع فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأمريكية الوضع العالمي نحو مستقبل مجهول، برغم ما يبدو من رغبة لدى الرئيس المنتخب للحد من مخاوف الآخرين. ولكن المخاوف لم تتبدد بل ربما تعمقت بتعيين ستيف بانون، رئيس تحرير صحيفة «بريتبارت نيوز» المصنفة ضمن اليمين المتطرف، رئيسا لفريقه الاستراتيجي. وبرغم ما يقال عن العلاقة الإيجابية بين ترامب وبوتين، فإن صعود اليمين المتطرف سيؤدي إلى أوضاع شبيهة بتلك التي كانت سائدة في ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي يعمق الشعور بحتمية المواجهة والحرب. هذه المرة ستكون الحرب مختلفة لأن أمريكا ستكون على الجانب المتطرف كما كانت ألمانيا. ظروف التوتر هذه المرة ستزداد حدة إذا توسعت النزعة نحو اليمين المتطرف في أوروبا.
وهناك توجه لتوجيه اللوم الكبير للرئيس أوباما بأنه التزم سياسة خارجية مختلفة عن سابقيه، وهي السياسة التي أدت إلى توقيع الاتفاق النووي مع إيران، ومدت جسور أمريكا مع كوبا، ومنعت توسع دائرة الحرب في سوريا. ولكن تلك السياسة نفسها هي التي فتحت البوابة أمام فراغ سياسي إقليمي في الشرق الأوسط دفع «إسرائيل» نحو سياسات أضعفت آفاق التوصل لسلام مع الفلسطينيين والعرب، وشجعت حكومة نتنياهو على التشدد والتوسع في بناء المستوطنات والتدخل الأمني في شؤون الدول العربية لمنع التحول الديمقراطي والحفاظ على الوضع الراهن. كما أدت تلك السياسة لدفع السعودية نحو سياسات جديدة تختلف عما اعتادته المملكة من الحذر والدبلوماسية الهادئة والسعي لتبريد بؤر التماس حتى في علاقاتها مع مناوئيها الإقليميين. ولا يمكن فصل حرب اليمن المدمرة عن السياسات التي انتهجها أوباما تجاه المنطقة.
فدخول الصين في العقد الأخير على خط السباق الدولي زاد من تعقيدات الوضع، وساهم في تبلور واقع سياسي دولي جديد خصوصا في العالم الغربي الذي بدا عاجزا عن ممارسة دور حقيقي على الصعيد الدولي. السياسات الأمريكية في عهد أوباما شجعت كوريا الشمالية على الالتحاق بالنادي النووي وتحدت السياسات الأمريكية ووسعت علاقاتها مع روسيا والصين.
في كتابه الذي صدر قبل عامين بعنوان «نظام العالم» ذكر كيسنجر أن الأوضاع الدولية تتجه نحو أوضاع شبيهة بتلك التي سبقت الحرب العالمية الثانية. وكسياسي خاض غمار العلاقات الدولية وعاصر تطورات الأوضاع في ما يخص الدور الأمريكي العالمي، يطرح بعض السيناريوهات لنشوب نزاع دولي واسع: أولها انقطاع العلاقات بين روسيا والغرب نتيجة الضعف العسكري الأوروبي، ثانيها تراجع الدور السياسي الأوروبي (ربما نتيجة صعود اليمين المتطرف)، وثالثها: تصاعد التوتر في الشرق الأوسط نتيجة ما يعتبره كيسنجر «ضعف سياسة أوباما» تجاه المنطقة.
كيسنجر يقدم نصائح للإدارة الأمريكية من بينها: عدم التصعيد مع الصين سواء في الحرب التجارية أم على النفوذ في بحر الصين الجنوبي. كما ينصحها بعدم التصعيد مع روسيا بل إعطاء بوتين شيئا من الاعتراف والنفوذ بدلا من المواجهة العسكرية.
التعامل مع بريكسيت (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي) بأنه فرصة لإعادة الفاعلية للسياسات الأوروبية لتكون قادرة على تحمل المسؤولية الاستراتيجية، إحلال السلام في سوريا ولو بإنشاء كانتونات على غرار ما حدث في يوغسلافيا قبل عشرين عاما.
الوضع العالمي أصبح مقلقا لمن يمتلكون نظرات بعيدة المدى ويراقبون التطورات الميدانية على ضفتي الأطلسي. فحين تحكم أمريكا برجل يجمع العالم على عدم صلاحيته لمنصبب الرئاسة، فمن المتوقع جدا أن يسعى لتفعيل سياساته ووعوده التي استقبلها العالم بالرفض. هذا يعني أن توجهاتها ليست محصورة بشخصه، بل إنها ثقافة عامة في المجتمع الأمريكي. هذه الثقافة تبدو كذلك متناغمة مع المزاج الأوروبي العام الذي يقترب هو الآخر من اليمين المتطرف الذي كان حتى وقت قريب لا يملك ما يؤهله لصعود السلم السياسي في أوروبا. هذا التوجه ينطوي على قدر كبير من التعصب والكراهية. كما أنه يعكس رغبة في الانكفاء على الذات وترك الهم الدولي جانبا لأن هذا الهم، في نظر هذه الاتجاهات، هو الذي أدى للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعاني منها تلك المجتمعات.
والأمر الذي يجعل هذا النمط من التفكير خطيرا على المسار الإنساني أنه يتوازى مع أطروحات مجموعات التطرف والإرهاب في العالمين العربي والإسلامي، وهي مجموعات ساهم الغربيون في نموها، واعتبرت سلاحا فعالا ضد صعود المشروع الإسلامي في جانبه السياسي. لقد أدرك هؤلاء أن هذا المشروع لا يمكن وقفه إلا بضربه من الداخل بتشكيل جماعات التطرف والعنف، فأصبح المشروع كله محجما ومهمشا ومرعبا للكثيرين ومرفوضا حتى من المجتمعات التي وقعت تحت حكم بعض هذه المجموعات. في ظل هذه الفسيفساء الفكرية والسياسية، أين يمكن رسم الخطوط بين ما هو هم وطني لدى الساسة وما يتجاوز ذلك ليصبح خطرا على الأمن والاستقرار الدوليين؟ كيف يمكن الحفاظ على الهوية الوطنية في ضوء تصاعد الهجرة وغياب سمات التصالح والتعايش والتحمل خصوصا لدى مجموعات اللاجئين الذين تعرضوا للأذى والتعب، وأصبحوا مرفوضين من مجتمعاتهم؟ كيف يمكن إعادة توجيه بوصلة الغرب ليكون متجها نحو المشروع الإنساني الذي يتجاوز الحدود ويروج لقيم الحرية والعدل والحق والمساواة؟
لقد جرب الغربيون المشروع النازي ودفعوا ثمنا باهضا لمناكفته، حتى نشبت أكبر حرب عالمية في تاريخ الأمم. فهل يتكرر اليوم سيناريو الحرب التي نشبت قبل ثلاثة أرباع القرن؟ وهل سيكون ترامب هو الصاعق الذي يفجر الحرب المقبلة؟
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2016/11/28