مستقبل أمريكا يتأرجح تحت رئاسة ترامب
د. سعيد الشهابي ..
الدولتان الكبريان في العالم الغربي اتخذتا في الفترة الأخيرة قرارات ستضر بمصالحهما كثيرا. فعندما صوت البريطانيون للخروج من أوروبا فأنهم اتخذوا قرارا ببناء جدار بينهم وبين جيرانهم، وقالوا للعالم: إننا لا ننتمي للمنظومة الأوروبية ضمن أطر السياسة والعلاقات والثقافة. وحين قرر الرئيس الأمريكي الجديد بناء جدار على حدود بلاده مع المكسيك، فأنه هو الآخر قال للعالم إنه مستعد لوضع حواجز نفسية وسياسية مع الدولة التي تشاركه الحدود.
وبرغم ما يبدو من تقارب بين لندن وواشنطن فمن المتوقع أن تشهد علاقاتهما توترات مستقبلية، خصوصا أن رئيسة الوزراء البريطانية محاصرة بدعوات لعدم مسايرة السياسات الأمريكية التي سيفرضها ترامب. فمن غير المنطقي أن تقرر بريطانيا خفض علاقاتها مع جيرانها وتمدها مع البعيدين. فأن استمر حزب المحافظين في دعم رئيسة وزرائه فمن المؤكد أنه سيتوجه نحو التطرف اليميني، الأمر الذي سيؤدي إلى اضطراب الأمن الاجتماعي في بريطانيا. وليس مستبعدا أن يؤدي ذلك إلى انفصال اسكتلاندا عن الجسد الإمبراطوري نظرا لتباين السياسات والرؤى. هذه الاضطرابات تعكس أزمة حقيقية ليس لدى الحزبين الحاكمين في لندن وواشنطن فحسب بل في المنظومة «الديمقراطية» نفسها و النظام الرأسمالي بشكل أوسع. هذه الأزمات لن تقتصر آثارها على حدود البلدين اللذين طالما تحدث زعماؤهما عن «العلاقات الخاصة» التي تربط بلديهما، بل من المؤكد أن ذلك سينعكس على الأمن العالمي أيضا.
ومن المتوقع كذلك أن تؤدي تلك العلاقات إلى تراجع استهداف ظاهرة الإرهاب العالمي الذي سيتوجه غربا بعد أن تتم محاصرته في دول الشرق الأوسط. يضاف إلى ذلك أن سياسات البلدين خصوصا في مجال علاقاتهما مع التحالف الأمني ـ السياسي في المنطقة الذي يضم «إسرائيل» أيضا ستساهم في استمرار الاحتقان الذي يعبر عن نفسه في شكل احتجاجات وثورات كما حدث قل ستة أعوام.
يتم ذلك في حقبة من أشد الأوقات سوادا في منطقة الشرق الأوسط، حيث يتغول الاستبداد ويستأسد الاحتلال وتقمع أحاسيس الحرية والكرامة لدى الجماهير.
من المؤكد أن القرار البريطاني بالانسحاب من أوروبا كان بمثابة «السونامي» الاستراتيجي على الصعيد الأوروبي، ولكن صعود دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية هو الآخر «سونامي» على الصعيد العالمي. فليس من المتوقع أن تزداد أمريكا قوة بل الأرجح أن تصاب بانتكاسات كبرى على ثلاثة محاور: داخلي، ومع أوروبا ومع الشرق الأوسط.
فقد كان عهد الرئيس السابق، باراك أوباما، متميزا برغم مساوئه وضعف سياساته الخارجية. وربما كان الأكثر إثارة للقلق على الصعيد الداخلي احتمال حدوث توترات عرقية بعد مقتل عدد من المواطنين السود، ولكن هدوء أوباما حال دون وقوع ذلك وقد ساهمت شخصية اوباما في امتصاص نقمة الأمريكيين ذوي السحنة السوداء، ولم يستطع أحد اتهامه بالعنصرية. ولكن صعود ترامب إلى الرئاسة أدخل عاملا جديدا على صعيد الأمن الداخلي والتمازج الاجتماعي.
هذه المرة لا تنحصر الأزمة ضمن الأبعاد العنصرية، بل تتجاوز ذلك لتصبح أزمة ذات طابع إنساني يشمل البيض والسود معا. فمعارضو رئاسة ترامب ليسوا من السود فحسب بل أن هناك حركة اجتماعية سياسية تتوسع بشكل مضطرد وتضم قطاعا واسعا من النساء ضد ما يمثله من استكبار وعنجهية وغرور تعكسه تصريحاته وإصراره على تنفيذ سياساته التي أعلن عنها بصلافة خلال حملته الانتخابية. ترامب اليوم ليس ذلك الثري الذي يتحاشى الكثيرون الدخول في نمط حياته وأفعاله أو أقواله. بل أنه يمثل أمريكا التي يفترض أن لديها مخزونا وفيرا من القيم التي توافق عليها «الآباء المؤسسون»، والتي تنص على الحرية والديمقراطية والمساواة والعدل، وهي قيم لم يجسدها ترامب في حياته التجارية قبل انتخابه رئيسا. وحين تخرج الاحتجاجات تباعا منذ اللحظات الأولى لإعلان فوزه وتتواصل في المدن والمناطق النائية والمطارات، بل تصل للدوائر الرسمية، وحين يشعر الكثيرون بحالة امتعاض غير مسبوقة من رئيسهم الذي انتخبوه ثم اكتشفوا خطأ قرارهم، فأن البلاد لا يمكن أن تستقر على الحال الذي كانت عليه قبل حدوث ذلك. أمريكا اليوم شعب منقسم على نفسه، متباين في رؤاه وقيمه، مضطرب في مواقفه. ويصفها الكاتب «ألكسندر ميركوريس» بأنها «متعبة» بعد قرابة العقود السبعة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية التي ركزت إداراتها خلالها على السياسة الخارجية، وأنفقت مبالغ طائلة لتقوية إمكاناتها العسكرية بمعدلات غير مسبوقة في التاريخ المعاصر. هل أن ترامب سيساهم في تخفيف أعبائها؟ أم سيزيد آلامها بسياساته التي تتسم بالصلافة والغرور والاستعجال والعنصرية؟
لم يعد مستبعدا أبدا أن تتفجر أمريكا من داخلها، خصوصا بعد أن تواصلت الاحتجاجات ضد رئاسته منذ إعلان نتائج الانتخابات. وحين يجهز على أهم انجازات أوباما في مجال توفير الرعاية الصحية، فسيكون ذلك صاعقا آخر لمزيد من القنابل الموقوتة.
البعد الثاني الذي يمكن استشراف سماته يتمثل بالعلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا في عهد ترامب. فبدلا من التأكيد على متانتها، شجع ترامب البريطانيين على الخروج من الاتحاد الأوروبي، وحين حدث ذلك اعتبره بداية لنهاية ذلك الاتحاد واصفا إياه بأنه «بركة للعالم»، ويتنبأ بين الحين والآخر بخروج دول أخرى منه. ولذلك ينظر الاتحاد إلى ترامب انه «تهديد» له. وهذا ما قاله السيد دونالد تاسك، رئيس المجلس الأوروبي، رئيس الوزراء البولندي السابق مؤكدا أن التغير في واشنطن «جانب من التهديد الخارجي الذي يضم كذلك الصين وروسيا والإسلام المتطرف». وثمة شعور بالإحباط يعم الدوائر السياسية الأوربية نتيجة صعود ترامب إلى الرئاسة الأمريكية.
السيد تاسك اهاب بزعماء دول الاتحاد الصمود أمام هذه التحديات وتأكيد دور الاتحاد في وجه التحديات الدولية والحفاظ على الأمن والاستقرار الدوليين. ولكن ذلك لا يخفي شعورا بالإحباط وخيبة الأمل في أوروبا. ففي شهر حزيران/يونيو الماضي أقر أولئك الزعماء وثيقة رسمت مبادئ السياسات الخارجية والأمنية للاتحاد وأهدافها وآلياتها. وأكدت الوثيقة بشكل خاص على العلاقات الأمريكية ـ الأوروبية العسكرية والسياسية والاقتصادية. وقالت الوثيقة: سنستمر في تعميق الرابطة بين ضفتي الأطلسي وشراكتنا في الناتو». ولذلك فحين يسعى الرئيس الأمريكي لتفتيت ذلك الاتحاد، فمن المؤكد أن ذلك يؤدي للإحباط والقلق. ويمكن القول إن ما يظهر من مفاصلة بين الاتحاد الأوروبي مع كل من بريطانيا وأمريكا لن تنحصر دوائره بذلك، بل قد يصل إلى التحالف العسكري المتمثل بالناتو. وهنا يظهر ترامب متحدثا بلغة أشد صرامة للدول الأوروبية، ويطرح عليها أن تقوية الحلف يتطلب من الدول الأوروبية تخصيص 2 بالمائة من موازناتها لذلك الحلف. قد يبدو من ذلك حماس أمريكي لتقوية هيكلية الناتو وتوضيح رؤاه واستراتيجياته. ولكن الأوروبيين لن يستطيعوا العمل عن كثب مع رئيس يطرح مبادئه وقيمه الصارخة علنا وبدون دبلوماسية، وهي قيم لا تنسجم مع ما كان متوافقا عليه في العالم الغربي. والمتوقع أن تضطرب العلاقات بين ضفتي الأطلسي نظرا لصعوبة ردم الهوة التي تتوسع باضطراد نتيجة ظهور المزيد من سياسات الرئيس ترامب الفاقعة التي لا تلتفت للبروتوكول ولا تهتم بالأحاسيس والمشاعر.
ولكن ماذا عن نظرة إدارة ترامب للأوضاع في الشرق الأوسط؟ لم يخف الرئيس الأمريكي انحيازه الكامل للكيان الإسرائيلي، خصوصا بعد أن كرر عزمه على نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، الأمر الذي يرفضه المجتمع الدولي كاملا. يضاف إلى ذلك أنه أعلن مواقف داعمة للحكومة الإسرائيلية، وسوف يلتقي مع نتنياهو منتصف هذا الشهر للتداول حول سياساته في المنطقة. السياسة الأمريكية تجاه القدس لم تعد مثيرة للجانب العربي الذي لم يعد لنفوذه أو مواقفه وجود يذكر. الأمر المؤكد أن العالم يعيش على كف عفريت. الرئيس الأمريكي الجديد يمثل انقلابا على الثوابت السياسية التي تبلورت بعد الحرب العالمية الثانية، والأخلاق والقيم الإنسانية، وعلى الذوق الدبلوماسي الذي حكم العلاقات بين الدول.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2017/02/06