الغرب يتشدق بالديمقراطية ولا يمارسها
د. سعيد الشهابي ..
نُشرت في الفترة الأخيرة مقالات كثيرة حول مستقبل «الغرب» كأطروحة سياسية وأخلاقية، يجمعها التشاؤم والتشكيك في مدى قدرة هذا «الغرب» على الاحتفاظ بالصدارة على صعيد العالم. وربما أهم ما يميز محرري تلك المقالات الفكرية تخليهم عن الإحساس بـ «نشوة» التفوق والنصر التي دفعت بعض مفكريهم سابقا للتحدث بنبرة تحتوي ذلك. ويبدو أن مرحلة سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي وتدخل التحالف الأنجلو ـ أمريكي عسكريا في الشرق الأوسط، كانت ذروة ما بلغه المشروع الغربي من «تفوق» في المنظومة السياسية التي حكمته خلال نصف القرن السابق، أي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
وكانت تلك المنظومة مفيدة جدا خلال الحرب الباردة لأنها أحدثت تقاربا بين دول الغرب ووفرت بديلا عمليا للمشروع الشيوعي. ومع حلول التسعينات كانت نشوة الانتصار السياسي والفكري طاغية على مشاعر المفكرين والكتاب. وحين حرر فرانسيس فوكوياما كتابه الشهير «نهاية التاريخ» إنما انطلق في أفكاره من الشعور بأن المعركة الفكرية والسياسية التي هيمنت على العالم خلال الحرب الباردة قد حسمت لصالح النظام الغربي الذي تميز بالليبرالية والديمقراطية، بالإضافة لمنظومة الحقوق التي، هي الأخرى، بلغت ذروتها آنذاك بعقد أول قمة حقوقية في العاصمة النمساوية في 1993. كان التحالف الأنجلو أمريكي يتصدر المشروع الغربي بعد أن خرج «منتصرا» في حربين كبريين: عسكرية وسياسية. الأولى تمثلت بحرب الكويت التي قامت بهدف معلن هو إخراج القوات العراقية من ذلك البلد.
ولم تكن نشوة النصر محصورة بالإنجازات العسكرية التي كانت فصولها تبث لحظة بلحظة في عصر التفوق التكنولوجي الذي مثلت قناة «سي ان ان» ذروته يومذاك، بل كانت نتيجة الحرب مرتبطة كذلك بالشعور بكسر عنفوان الظاهرة الثورية التي جسدتها الثورة الإسلامية في إيران وما نجم عنها من «صحوة إسلامية» عمت أغلب بلدان المنطقة. كانت الخشية من تلك الظواهر بروز ظاهرة الإسلام السياسي كبديل أخلاقي سياسي ينافس المشروع الغربي. وبموازاة ما أطلق عليه فوكوياما «هيمنة الديمقراطية الليبرالية» على العالم كونها، في نظره، ذروة ما بلغه الفكر البشري في مجال الحكم، طرح صمويل هانتغتون فرضية «صراع الحضارات» كخط دفاع آخر لمواجهة المشروع الإسلامي أو ما قد يصدر عن الشرق من أطروحات سياسية على غرار الشيوعية.
تلك الحقبة التي ميزت الغرب بشعوره العميق بنصرة الغلبة والنصر، بدأت بالتلاشي تدريجيا. فقد نجم عن الحرب المذكورة ظهور ظاهرة الإرهاب والتطرف، الأمر الذي كان تحديا أخلاقيا وسياسيا للغرب «المنتصر». فحدثت التدخلات وتم تفريخ المصطلحات واستهداف الظاهرة الإسلامية ليس في فروعها المرتبطة بالتطرف والإرهاب فحسب بل في بعدها الديني والحضاري، الأمر الذي أدى إلى توسع الشرخ بشكل تدريجي. الغرب كانت أمامه فرصة لإحياء تراثه الفكري والثقافي الذي تأسس مشروعه عليه قبل قرون: يقول الكاتب بريت ستيفنس في مقال بعنوان: هل ما زلنا نريد الغرب؟ نشره في 22 فبراير/شباط في صحيفة «وول ستريت جورنال»: «إن أرضيته (الغرب) الأخلاقية وضعت أسسها في القدس (أي الدين المسيحي)، والفلسفية في اثينا والقانونية في روما، وكان يحترم مفاهيم العقل والوحي، والحرية والمسؤولية، وسعى مع الوقت لاحتواء التناقضات في ما بين هذه المفاهيم». ويضيف الكاتب إن الغرب كان فخورا بكل ذلك، يعلمها الطلاب في المدارس وفي وسائل الإعلام وعلى مستوى العلاقات بين الدول وكذلك في ميادين الحروب. ولكن ذلك تغير، فظهرت أجيال لا تؤمن بشيء من ذلك، ولكنها تصاب بالذهول حين تطرح سياسات معادية للغرب. وينتهي إلى القول: «إذا أردنا أن يتعلم الأطفال قيم الحضارة التي تحميهم من أمثال ترامب ولوبان ولافروف فلا بد من البدء بإعادة تعليمها». هذا المقال وغيره يعكس حالة الشعور بالإحباط لدى جيل من المثقفين والمفكرين الغربيين الذين شاهدوا الانحدار الذي يعاني الغرب منه، ويسعون لوقف التداعي الأخلاقي والقيمي الذي من شأنه أن يؤدي لسقوط حضارته.
من المؤكد أن بروز الظواهر الحالية في العالم السياسي مؤشر سلبي للمسار الغربي، وهو أمر يقلق من كان يتباهى بالنظام السياسي الديمقراطي، الليبرالي في العالم الرأسمالي. بدأ الشعور بالأزمة الوجودية قبل عقد واحد، عندما حدثت الأزمة الاقتصادية في أمريكا ووصلت إلى أوروبا. ارتبطت تلك الأزمة بتداعي أداء النظام المصرفي في 2008 الذي يعتبر الدعامة الأساس للنظام الرأسمالي. تلك الأزمة لم تؤد إلى إعادة قراءة جادة لذلك النظام، بل اكتفت الحكومات بالالتفاف على الأزمة والتعاطي مع ظواهرها فحسب. فتم ضخ المزيد من الأموال العامة لشراء المصارف الفاشلة، وكان ذلك أحد مظاهر الفساد السياسي والاقتصادي. فلماذا تنفق الأموال العامة لتمويل فشل النخب في أدائها؟ كان ذلك فشلا ليس في النظرية الرأسمالية فحسب بل في النظام الإداري المؤسس على نظرية الديمقراطية الليبرالية. فقد تمت التضحية بأموال الشعوب من أجل إنقاذ النخب. وتواصل هذا التداعي في الأداء السياسي. وأنفقت الأموال العامة على الحروب اللاحقة، تارة باسم محاربة الإرهاب، وأخرى تحت غطاء تسليح الحلفاء في تلك الحرب، وثالثة لتوسيع النفوذ الغربي، ورابعة لإنقاذ التحالفات السياسية والاقتصادية كالناتو والاتحاد الأوروبي.
وكانت القيم والأخلاق والمبادئ التي بني النظام الغربي عليها هي الضحية الأساس لتلك السياسات، حتى بلغ التداعي ذروته العام الماضي. بدأت الأزمة الحالية بالتعاطي السلبي مع ظاهرة اللاجئين الذين تدفقوا على أوروبا نتيجة تدهور الأوضاع الأمنية والمعيشية في بلدانهم. ويمكن تسجيل موقف تاريخي للرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، الذي اتهم حكومة ديفيد كاميرون، بالنتائج السلبية في ليبيا جراء التدخل البريطاني لإسقاط نظام القذافي، بدون وضع خطط بديلة لما بعد التغيير. هذا التصريح لم يحظ باهتمام كبير لأنه لا ينسجم مع التوجهات العامة للمؤسسة الحاكمة البريطانية.
ظاهرة اللاجئين استغلت في ضوء التداعي القيمي الذي أشار إليه الكاتب بريت ستيفن، فحدثت تفاعلات وسجالات ساهم الإعلام في توجيهها بعيدا عن تلك القيم، فبدأت النتائج السلبية تتراكم. وحدثت تطورات ثلاثة، كل منها لا يقل خطرا عن الآخر. أولها ترشح دونالد ترامب للرئاسة الأمريكية. وفي البداية استقبل الخبر بازدراء عام وتهكم من رؤساء الحكومات أنفسهم. فالرحل لا يملك شيئا من المقومات التي تتطلبها رئاسة البلد الأكبر في العالم، ولديه سجل حافل بالتداعي الأخلاقي والقيمي. ثانيها: الاستفتاء الذي أدى للانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي. وهذا تطور آخر لم يكن في الحسبان. ولم يكن ديفيد كاميرون الذي اتخذ القرار يتوقع النتيجة التي جاء بها الاستفتاء. أما الثالث: فهو صعود اليمين المتطرف في بلدان أوروبية شتى، وهي ظاهرة لم تكن هي الأخرى متوقعة على نطاق واسع، ولكنها أصبحت الآن مقلقة للعالم. ففي فرنسا ارتفعت حظوظ ماري لوبان في الانتخابات الرئاسية، وفي هولندا يحظى جيرت ويلدرز بموقع متقدم في الانتخابات البرلمانية. هذه الظواهر انعكاس لاوضاع فكرية ونفسية تنتشر بسرعة في الغرب لتعكس مساره «الديمقراطي» وتحوله إلى مصدر خطر للأمن والسلم الدوليين. فالتطرف، أيا كان مصدره أو شكله، لا يمكن أن يؤدي إلى الأمن والاستقرار لأنه يتأسس على التعصب ونبذ الآخر وتغول الذات وغياب الاحترام وتهميش المبادئ والأخلاق والقيم الدينية التي تساوي بين البشر. فوجود تطرف لدى بعض المجموعات التي تتكلم باسم الإسلام لا يبرر ظهور توجهات معاكسة تماما في الغرب لأن ذلك يؤدي إلى «صراع الحضارات» برغم عدم دقة ذلك المصطلح. فالحضارات الحقيقية لا يمكن أن تتصارع إلا إذا كانت مؤسسة على الجهل والعصبية وليس على العلم والمبادئ.
إن التشاؤم من تلاشي الظاهرة الديمقراطية في الغرب أصبح سمة للكثير من الكتاب. يقول الكاتب جيدون راخمر، في مقال نشرته صحيفة «فايننشال تايمز» في 22 فبراير/شباط: «لقد امتدت موجة من التسلط التي نشأت خارج الديمقراطيات الراسخة في الغرب، إلى الولايات المتحدة وأوروبا». وقال إن فوز ترامب واحد من مصاديق ذلك، برغم أنه يعتبر الإعلام «عدوا» ولا يكن احتراما للقضاء المستقل. وأشار مقال مهم نشر العام الماضي لأكاديمييْن أمريكيين: روبرتو فوا وياتشا مونك كتباه قبل فوز ترامب، إلى صعود المشاعر المضادة للديمقراطية في الولايات المتحدة وأوروبا. وجاء في المقال إن واحدا من كل ستة أمريكيين يعتقدون أن من الأفضل أن يحكم الجيش، مقارنة بما نسبته واحد من كل 16 في 1995. وبينما يعتقد أكثر من 70 في المئة من الأمريكيين الذين ولدوا في ثلاثينيات القرن الماضي أن من الأفضل العيش في ظل حكم ديمقراطي، فإن 30 في المئة فقط من الذين ولدوا في ثمانينيات القرن الماضي يوافقون على ذلك وهناك نسب مشابهة في أوروبا لهبوط الإيمان في المؤسسات الديمقراطية في أوروبا. وانتهت الدراسة إلى أنه «خلال العقود الثلاثة الماضية فإن الثقة بالمؤسسات السياسية كالبرلمان والمحاكم تراجعت في الديمقراطيات الراسخة في أمريكا وأوروبا». وهناك سجالات قوية حول هذه القضية. فمع وجود الكثيرين ممن يؤمن بالحرية فإن القليل منهم مستعد للسجن من أجل المطالبة بالحريات العامة ومنها حرية التعبير. هذا الوضع الغربي ليس أمرا إيجابيا للمشروع الديمقراطي أو الإصلاح السياسي في العالم العربي. فبعد سقوط الاتحاد السوفياتي اعتقدت شعوبه وقومياته التي انفصلت عنه أنها ستتحول إلى واحات من الديمقراطية، ولكن ربع قرن من الزمن أظهر واقعا مختلفا، وكشف توجه الغرب للتخلي عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والقبول بالاستبداد وتجاهل حكم القانون. هذه بعض مؤشرات سقوط الحضارات، والغربيون يعرفون أن حضارتهم لن تسلم من السقوط إذا تجلت في مساراتها تلك المؤشرات.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2017/02/27