البحث العلمي .. وقضية التنمية
أ.د.سعد علي الحاج بكري ..
إذا نظرنا إلى ما حولنا نجد معرضا كبيرا تنضح معروضاته، منتجات وخدمات، بالمعرفة في شتى المجالات؛ بل إن هذه المعروضات تتجدد مع الزمن، بمعرفة أوسع وإمكانات أفضل، وتتزايد باستمرار ودون انقطاع. الجوالات، والحواسيب، ووسائل الاتصال الأرضية والفضائية، والإنترنت، وشبكات التواصل التي تستند إليها، وخدمات الأعمال الإلكترونية، والتعاملات الحكومية الإلكترونية، وغير ذلك من معروضات أخرى عديدة في حياتنا، كالسيارات والطائرات والقطارات، التي بات الذكاء الإلكتروني المتزايد يغزو وظائفها المختلفة ويسعى إلى التحكم فيها. المعرفة التي تنضح بها هذه المنتجات والخدمات هي "معرفة حية" لأنها أخذت طريقها إلى التطبيق، ثم إلى النور، في إطار مشهد العالم المتجدد الذي نعيش فيه. وهي في هذا المشهد تجذب المهتمين إليها وتحفزهم على الحصول عليها واستخدامها والاستفادة منها، لتؤدي بذلك إلى توليد الثروة المادية وتفعيل الثروة البشرية والإسهام في التنمية.
البحث العلمي هو الطريق إلى المعرفة الجديدة والمتجددة التي نحتاج إليها من أجل التنمية. وينقسم البحث العلمي تبعا لطبيعته، كما قسمته منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم: يونسكو UNESCO، إلى ثلاثة أقسام رئيسة. القسم الأول هو قسم البحوث الأساسية Basic Research الذي يقدم اكتشافات معرفية جديدة لحقائق الطبيعة من حولنا، ويعطي إبداعات معرفية فكرية في العلوم المختلفة. وتضيف هذه الاكتشافات والإبداعات إلى الرصيد العلمي للإنسان، ولكن لا يكون لها في الغالب مجالات تطبيقية على المدى القريب، وإنما رؤية واعدة على المدى البعيد. ويأتي القسم الثاني هنا ليتوجه نحو التطبيقات، ويدعى قسم البحوث التطبيقية Applied Research، حيث يركز على الاكتشافات والإبداعات التي يمكن تطبيقها على المدى القريب من أجل الاستفادة من معطياتها.
يسعى القسم الثالث، من أقسام البحث العلمي إلى تطوير المعرفة وتوجيهها نحو خدمة الحياة، وتقديم منتجات وخدمات جديدة أو متجددة، تشارك في معروضات مشهد العالم في هذا العصر. ويعرف هذا القسم باسم "قسم بحوث التطوير التجريبيExperimental Development Research، وهو القسم الذي يمثل "الابتكار" الذي يجعل المعرفة حية بما يقدمه من تطبيقات تحمل قيمة مادية قادرة على الإسهام في التنمية. ولا شك أن الأقسام الثلاثة للبحث العلمي أقسام متفاعلة، في إطار مسيرة معرفية متكاملة، تبدأ بالاكتشاف والإبداع بعيد المدى، ثم قريب المدى، وصولا إلى التطوير والابتكار والتطبيقات المعرفية المفيدة.
تهتم الدول الصناعية بالأنواع الثلاثة من البحث العلمي، ولكن بنسب مختلفة. وسنقدم بعض الأمثلة العددية فيما يلي، مأخوذة من إصدار "دليل الابتكار العالمي GII" الصادر عام 2016. ففي كوريا الجنوبية، تبلغ نسبة البحوث الأساسية إلى جملة البحوث نحو 18 في المائة؛ والبحوث التطبيقية نحو 19 في المائة؛ وبحوث التطوير التجريبي نحو 63 في المائة. وفي اليابان تبلغ هذه النسب نحو 12 في المائة للبحوث الأساسية؛ و20 في المائة للتطبيقية؛ و63 في المائة لبحوث التطوير التجريبي؛ إضافة إلى نحو 5 في المائة للبحوث الأخرى.
البحوث المنشورة أو القابلة للنشر في المجلات المحكمة المعترف بتميزها، التي يطلق عليها "مجلات ISI" هي غالبا تلك الناتجة عن البحوث الأساسية والبحوث التطبيقية. ويعطي نشرها في هذه المجلات مكانة معنوية لأصحابها، تقديرا لإسهامهم في الرصيد المعرفي الإنساني. أما بحوث التطوير التجريبي فهي غالبا ليست للنشر العلمي وإنما للتطبيق، وتقديم منتجات وخدمات متجددة، تعطي قيمة مادية قادرة على الإسهام في التنمية.
وقد تعتمد بحوث التطوير التجريبي على معرفة محدودة لتقديم منتجات أو خدمات ذات قيمة مادية مرتفعة، وهي بذلك لا تكون صالحة للنشر العلمي لضعف المادة المعرفية، على الرغم من تميز القيمة المادية. وقد يتجنب أصحاب هذه البحوث نشرها، ويقومون بالتقدم بطلبات للحصول على براءات اختراع تحفظ لهم حقوق التطبيق لمدد زمنية محددة، لا ينافسهم فيها أحد.
ليس نشر البحث العلمي، على الرغم من أهميته المعرفية، أولوية أولى لدى الدول الصناعية، بل إن الاستفادة منه في التنمية هي الأولوية. فعلى الرغم من أن كوريا الجنوبية هي الأولى في العالم في الإنفاق على البحث العلمي، نسبة إلى الناتج المحلي، إلا أن ترتيبها الدولي في النشر العلمي نسبة إلى هذا الناتج، في المجلات المحكمة المسجلة في ISI، هو 25. كما أن اليابان الثالثة في الإنفاق على البحث العلمي، بلغ ترتيبها 47 في النشر العلمي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن اليابان تحتل المركز الأول دوليا في براءات الاختراع الدولية PCT؛ وأن كوريا الجنوبية تحتل المركز الثاني.
بناء على ما سبق، ومن خلال مثالي كوريا الجنوبية واليابان المتميزتين في الإنفاق على البحث العلمي، نجد أن التركيز في العالم المتقدم واضح على بحوث التطوير والابتكار الداعمة للتنمية، دون إهمال الاكتشاف والإبداع في البحوث الأساسية والتطبيقية، التي تقوم بتزويد بحوث التنمية بالمعرفة المفيدة على المديين القريب والبعيد.
واليوم، ونحن نتطلع إلى التنمية، علينا الاهتمام بالبحث العلمي في المجالات الرئيسة المرتبطة برؤيتنا للتنمية، بما يشمل مسيرة البحث العلمي في هذه المجالات، من البحوث الأساسية، إلى البحوث التطبيقية، ثم إلى بحوث التطوير التجريبي والابتكار. في إطار هذا الاهتمام، جميل أن تكون لدينا بحوث منشورة على المستوى الدولي نفخر بها، لكن الأجمل أن نستطيع تقديم "منتجات وخدمات حية" تحمل للسوق المحلية والسوق الخارجية قيمة مادية فاعلة. مثل هذه المنتجات والخدمات تجذب الناس إليها، فتؤدي إلى توليد الثروة المادية، وتفعيل الثروة البشرية التي يمكن أن تسهم في إنتاجها على نطاق واسع، لتؤدي بكل ذلك إلى تحقيق التنمية وتفعيل استدامتها.
البحث العلمي في حياتنا المعاصرة مسألة مهمة للغاية؛ والإنفاق عليها، والنشر العلمي لبعض مخرجاتها أمور مطلوبة، لكنها غير كافية. فنحن نحتاج إلى دور فاعل لها في قضية التنمية؛ نحتاج إلى بحوث علمية تتطلع إلى تقديم "معرفة حية" تركز على التنمية وتستجيب لمتطلباتها وتعزز استدامتها. وإذا كانت المسؤولية عن ذلك تبدو موزعة بين الجهات البحثية الحكومية والجامعات والشركات وغيرها، فلا بد من مظلة مشتركة تجمع هذه الجهات في إطار خطط تعتمد توجهات التنمية، وتستفيد من المعطيات العالمية المتجددة، كي يحقق البحث العلمي دوره المنشود الذي نتطلع إليه.
جريدة الاقتصادية
أضيف بتاريخ :2017/03/09