عالم متجه نحو العنف… فمن ينقذه؟
د. سعيد الشهابي ..
العنف في الحضارة الغربية الحديثة من بين الجدليات التي يتم تداولها في بعض المحافل الغربية وكذلك مؤسسات البحث ولقاءات العصف الذهني. ففي الوقت الذي لم تقم فيه الدول الغربية بأي دور بناء لتحريك الأوضاع السياسية في العالم العربي بعد ثورات العربي، فأنها استمرت في حماسها لبيع السلاح، الأمر الذي حرك مشاعر النشطاء ذوي النزعات الإنسانية ودفعهم لتصعيد نشاطهم للضغط على الحكومات الغربية لوقف صادرات السلاح خصوصا للدول التي تتهم حكوماتها بقمع معارضيها. وفيما ينتظر النشطاء والحكومة البريطانية قرار المحكمة العليا حول مدى شرعية بيع السلاح للأطراف المشاركة في حرب اليمن، أثار القرار الأمريكي الأخير باستئناف بيع الطائرات المقاتلة للبحرين جدلا واسعا حول ملاءمته في وقت ما يزال الوضع السياسي في ذلك البلد متوترا. وكان الرئيس السابق، باراك أوباما، قد قرر تجميد تلك الصفقات بعد تفجر الأوضاع فيها قبل ستة أعوام.
الانتقادات حول صفقة الطائرات الأمريكية (19 طائرة من نوع اف 16 بتكلفة تتجاوز الخمسة مليارات دولار) تمحورت حول عدد من الأمور: الأول إنها خروج على سياسة واشنطن السابقة التي سعت للابتعاد عن اللغط حول تاريخ السياسة الأمريكية تجاه قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية في الشرق الأوسط. الثاني: إنها تعميق لظاهرة العسكرة في العالم العربي بعيدا عن التنمية والبناء والحوار والتلاحم الداخلي سواء في ما بين الشعوب أو بين مكوناتها. الثالث: إن القرار الأمريكي الذي أعلنه وزير الخارجية الأمريكي تيلرسون، وهو الأول على صعيد العلاقات الخارجية، يعتبر بادرة غير مشجعة من قبل حكومة ترامب على صعيد العلاقات مع العالم. الرابع: إن الوزير الأمريكي لم يصغ لاحتجاجات المنظمات الحقوقية الدولية خصوصا هيومن رايتس ووج والعفو الدولية اللتين اعتبرتا أن الصفقة «بعثت رسائل خاطئة» لحكومة البحرين في الوقت الذي يجدر بواشنطن أن تطرح مشروعات إصلاحية وتصالحية تساهم في تقليص الاحتقان الناجم عن غياب التواصل بين الأنظمة والشعوب في العالم العربي. الخامس: إن الصفقة توازت مع جهود أمريكية لتكثيف الدعم لـ «إسرائيل» والصمت على استمرارها في بناء المستوطنات، والتخلي عن مطلب «الدولتين» وسعي الخارجية الأمريكية الحثيث لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وما يعنيه ذلك من إقرار لسياسات الاحتلال والاستيطان.
ولكن السجال لا يتوقف هنا، بل يمتد لفتح ملف العنف المرتبط بما يسمى «الدولة الحديثة» ومدى وفائها للقيم التي يفترض أنها تشكل أساسها الفكري والثقافي. فقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، إذا ما كان هناك صدق في احتضانها، لا تتحقق في ظلال السيوف وقرع طبول الحرب، بل تتطلب أوضاعا سياسية هادئة وابتعادا عن العنف من كافة الأطراف. غير أن السياسات الأمريكية لم تتطور إيجابا في هذين المجالين، بل شهدت تراجعات كبرى خصوصا بعد حوادث 11 أيلول/سبتمبر الإرهابية. فحين تقر الإدارة الأمريكية أساليب تعذيب جديدة خلال التحقيق مع معتقلي تنظيم القاعدة، خصوصا أسلوب «الإيهام بالغرق» فأن ذلك تراجع خطير عن المنظومة الحقوقية التي روجها الغربيون بعد الحرب العالمية الثانية. وفي السنوات الخمس عشرة الماضية حدثت سجالات عديدة حتى في أوساط النخب الحاكمة في أمريكا حول الإستراتيجية الجديدة المطلوبة لمرحلة ما بعد حوادث 11 سبتمبر. يومها قالت مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية في إدارة كلينتون: لقد ركزنا كثيرا في السابق على تحقيق الأمن على حساب الديمقراطية، فلم يتحقق أي منهما، وحان الوقت لترويج الديمقراطية، فذلك هو السبيل لتحقيق الأمن». ولكن تلك السجالات لم تصل إلى نتيجة. وعندما حدثت الانتكاسة الاقتصادية في 2008 تراجع الأمريكيون والأوروبيون عن المنظومتين الحقوقية والديمقراطية. فالأوضاع الاقتصادية الضاغطة دفعت الحكومات الغربية للتخلي عن تلك القيم، وأصبح البحث أكثر توجها للمصادر المالية التي قد تساعد الغربيين على تجاوز أكبر أزمة في القطاع المصرفي الذي يعتبر جوهر النظام الرأسمالي. وأعقب ذلك ظاهرة الربيع العربي التي حدثت بسرعة بدون مقدمات أو مؤشرات واضحة. ومرة أخرى لم يتشبث الغرب بقيمه ومبادئه بل أعطى الأولوية لحماية مصالحه بالحفاظ على الأنظمة التي انتفضت شعوبها للإطاحة بها. ومرة أخرى تفشل الدبلوماسية الغربية في الاستفادة من فرصة تاريخية من شأنها أن تفضي إلى أوضاع أكثر أمنا واستقرارا في العالم والشرق الأوسط.
الأمر الجلي أن الغربيين، برغم تظاهرهم بدعم المشروعين الحقوقي والديمقراطي، كثيرا ما يجدون أنفسهم مشدودين إلى ظاهرة العنف والقتل، والاعتماد على صنع السلاح وبيعه لدول العالم الثالث. فالمنظومة الحقوقية إنما قامت على أنقاض الحرب العالمية الثانية التي أتت على الأخضر واليابس، ولم تتأسس على قناعات إستراتيجية راسخة. والإقتصادات الغربية، برغم ترويج القول باعتمادها على حركة السوق بحرية كاملة، اعتمدت كثيرا على مبيعات السلاح، الأمر الذي اقتضى إيجاد ظروف الاختلاف والتوتر والحرب في العالم الثالث. وبرغم أن ترامب أكد كثيرا أنه يريد تطوير الأوضاع الاقتصادية الأمريكية، وأن خبرته في إدارة الأعمال تؤهله لإدارة الملف الاقتصادي للدولة إلا أن من الواضح أن هذا التطوير سيكون ثمنه الأخلاقي باهظا جدا لأسباب عديدة: أولها إنه سوف يعتمد على زيادة مبيعات الأسلحة ، ثانيا: إنه سوف يهمش الاعتبارات الأخرى خصوصا حقوق الإنسان في صفقات السلاح، ثالثا: إنه سوف يحول القدرات العسكرية الأمريكية إلى مشاريع تجارية، فتقوم بحماية الأنظمة الأخرى بتكاليف باهظة تدفعها تلك الأنظمة، وهذا ما صرح به خلال حملته الانتخابية. رابعا: إنه سوف يسعى لمنافسة الصين بأساليبه غير الفاعلة، سواء بالتهديد أو الابتزاز، الأمر الذي لن يحقق التنافس المطلوب. خامسا: إنه يسعى للضغط على الدول الأعضاء بحلف شمال الأطلسي (ناتو) لزيادة مخصصات الأنفاق من موازناتها العامة على الجانب العسكري، على أمل أن يتوجه هؤلاء لشراء الأسلحة الأمريكية بوتيرة أكبر. سادسا: إن فريقه ما برح يروج لأحدث المقالات الأمريكية (اف 35) التي تكلف الواحدة منها 100 مليون دولار لتكون السلاح الأقوى لدى التحالف. هذه السياسات لا يمكن اعتبارها إستراتيجية ناجعة لتطوير الاقتصاد الأمريكي الذي يعاني من خلل بنيوي مرتبط بالمشروع الرأسمالي. يضاف إلى ذلك أن ترامب سوف يواجه تحديات داخلية كبيرة على غرار قراره منع مواطني دول عديدة من دخول الولايات المتحدة الذي انقلب عليه ولم يستطع فرضه حتى الآن. كما أن نزعته لإلغاء النظام الصحي الذي أقرته إدارة أوباما سيثير قطاعات واسعة ضده نظرا لعدم امتلاكه بديلا عمليا لملايين الفقراء.
إن من الخطأ الكبير النظر إلى استشراء ظواهر العنف خصوصا الإرهاب بمعزل عن العقلية الغربية التي تتبنى استخدام العنف سلاحا ضد المنافسين تارة تحت شعار «التوازن» وأخرى «الردع» وثالثة «الدفاع عن النفس». فبموازاة الظواهر الغربية ضد السلاح التي تمثلها مذاهب دينية مثل «كويكرز» وسياسية مثل «كات، الحملة ضد تجارة السلاح» و «تحالف وقف الحرب» هناك العقلية التقليدية التي ترى في الحروب مجالا للتوسع التجاري والهيمنة السياسية. وبرغم أن السلاح النووي مسألة مثيرة للجدل الكثير فان الزعماء الغربيين لا يترددون عن تبنيها وتحديثها واستخدامها سلاحا، ليس في الحروب فحسب، بل في السعي لتحقيق توازنات سياسية مع الآخرين، كما هو الحال مع إيران. ومن الضروري استحضار النزعة نحو العنف واللاإنسانية المختزنة في نفوس الكثيرين خصوصا قادة الدول القوية عسكريا. فحين طرح السيد جيريمي كوربين، رئيس حزب العمال البريطاني، سؤالا على رئيسة الوزراء، تيريزا مي» عما إذا كان لديها الاستعداد لضغط الزر الذي يطلق السلاح النووي مع العلم أنه سيؤدي لقتل أكثر من 100 ألف أنسان، سارعت السيدة ماي للقول: نعم سأفعل ذلك، الأمر الذي فاجأ الكثيرين من عشاق السلام ومناهضي الحروب. إنها نزعة دموية غير مبررة ولكن زعماء الغرب احتضنوها وروجوها.
يمكن القول أن أوضاع العالم اليوم تشبه إلى حد كبير ما كان يجري في الغرب قبيل الحرب العالمية الثانية، من توترات ومناكفات وتهديدات وأطماع توسعية ورغبة في الهيمنة والنفوذ. وقد أدى ذلك لقيام أكبر حرب كونية شهدتها هذه الأرض. والعالم اليوم يحتضن هذه التوجهات لدى الغربيين. فالصراع هذه المرة يتجدد بأشكال شتى: بريطانيا تخرج من الاتحاد الأوروبي، أمريكا تتمنى تفكك ذلك الاتحاد، الولايات المتحدة تواجه تهديدات إستراتيجية من القوى الصاعدة كالصين والهند وروسيا، تحسس بريطاني من استعادة ألمانيا هيمنتها على أوروبا كما حدث في النصف الأول من القرن الماضي، تراجع دور الأمم المتحدة وعدم قدرتها على ضمن الأمن والسلام الدوليين، توسع دائرة العنف من كافة الأطراف، والتعطش للدماء بشكل متشابه بين الإرهابيين وزعماء الدول الغربية.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2017/04/03