التاريخ والجغرافيا والدين ضمانات لحفظ الأمة
د. سعيد الشهابي
في خضم الصراعات السياسية والعسكرية والتوترات الأمنية في عالمينا العربي والإسلامي، تبدو للكثيرين صورة مخالفة للواقع. هذه الصورة تظهر فيها حالة التناحر والتفكك والصراع التي قد توحي باستحالة إعادة لم الشمل. غير أن الواقع يختلف كثيرا عن ذلك. وهنا يتضح الدور الكبير لوسائل الإعلام التي تبالغ في بث الفتنة والاختلاف، وتخفي ما يوحي بالوحدة الحقيقية بين الشعوب العربية والإسلامية. فالصراعات التي تعج بها بلداننا إنما هي سياسية في المقام الأول وليست فكرية أو دينية أو مذهبية، وأن كان ذلك كله يستخدم لتأجيج الصراع. المشكلة أن مثيري الصراع والفتنة، وهم قلة ضئيلة جدا إذا قورنت بحجم الأمة الذي يتجاوز عدد أفرادها مليارا ونصفا، مدعومون من قبل أنظمة وجهات إقليمية ودولية. وثمة أهداف لبث هذه الصورة السلبية المحبطة. أولها: كسر إرادة الأمة وتعميق روح اليأس من أمكان التغيير الضروري لإصلاح أوضاعها. ثانيا: الحفاظ على الوضع السياسي القائم الذي فتح المجال لهيمنة القوى الأجنبية على بلدان العالم الإسلامي. ثالثها: منع تعمق روح التنمية البشرية والعلمية والتكنولوجية التي تقتضي وجود أوضاع مستقرة ومشاعر تتطلع لبناء مستقبل في أوضاع من الاستقلال والحرية والتحكم في تقرير المصير. رابعها: كسر إرادة الاحتفاظ بما تبقى من كيانات سياسية، برغم صغرها، لتكون بديلا عن «الدولة الأممية» التي طالما حلم العلماء والمصلحون الكبار بها منذ عقود. خامسها: البدء بتفعيل «سايكس بيكو 2» بعد مرور مائة عام على النسخة الأولى من الاتفاق المشؤوم لتوزيع النفوذ على العالمين العربي والإسلامي. تلك النسخة استطاعت القضاء على بقايا الدولة العثمانية ورمزيتها الدينية والتاريخية للمسلمين تحويل الأمة إلى كيانات صغيرة وأدت إلى قيام الدولة القطرية التي فقدت القدرة على التطور أو حتى الاحتفاظ بالاستقلال، وقد ساهم ذلك في استعمار بلدان العرب والمسلمين، والهيمنة على الثروة النفطية التي بدأ اكتشافها على نطاق واسع، وتوفير الظروف لإقامة الكيان الإسرائيلي. أما النسخة الثانية فقد بدأت في تفعيل نفسها بدون التوقيع الرسمي على نصوص معلنة لها. وشجع القائمين عليها الصمت العربي والإسلامي على أول تجربة للتقسيم، عندما مزق السودان إلى دولتين. ولم يعد حديث التقسيم سريا، بل أن شبحه يخيم على سوريا والعراق وليبيا واليمن، ولن تكون مصر أو تركيا أو حتى إيران وباكستان بمنأى عنه.
القصة بدأت عشية حلول القرن الحادي والعشرين بعد تفكك الاتحاد السوفياتي والشعور الغربي بالهيمنة المطلقة على شؤون العالم. فقبل ذلك كانت أمريكا أسيرة لتجاربها الفاشلة بعد الحرب العالمية الثانية، خصوصا في جنوب شرق آسيا (الحرب الكورية في مطلع الخمسينات، والحرب الفيتنامية التي انتهت في منتصف السبعينيات). فترددت كثيرا قبل أن تتدخل بهدف معلن يخفي أهدافا مخفية، سمي وقتها «تحرير الكويت». ذلك «التحرير» كان بداية التدخل الأمريكي بنمطه الحالي في شؤون المنطقة، عسكريا وسياسيا. فمن لم يقبل بالوجود العراقي في الكويت أصبح مجبرا على القبول بالهيمنة الأمريكية على اغلب مناطق العالم الإسلامي. والأخطر من ذلك تبخر روح المقاومة من نفوس الشعوب لتلك الهيمنة. فأين الاحتجاجات التي عمت العالمين العربي والإسلامي ضد التدخل الأجنبي في الكويت مما يحدث الآن من سعي متواصل لاستجداء الغربيين للتدخل وبناء القواعد لهم على نفقات حكومات المنطقة؟ يومها رفض التدخل حتى الأنظمة الرسمية ومنها الأردن واليمن والسودان. وها هو دونالد ترامب يبدأ بتنفيذ ما تحدث عنه في حملته الانتخابية عن عزمه إجبار دول كالسعودية على دفع المزيد في مقابل حمايتها.
ويمثل انتقاد ترامب للرياض عودة لتصريحات أدلى بها خلال حملته الانتخابية في 2016 حين اتهم المملكة بأنها لا تتحمل نصيبا عادلا من تكلفة مظلة الحماية الأمنية الأمريكية. وقال ترامب في مؤتمر انتخابي في ويسكونسن قبل عام «لن يعبث أحد مع السعودية لأننا نرعاها… إنها لا تدفع لنا ثمنا عادلا. نخسر الكثير من المال». هذا التدخل الغربي سوف يزداد في السنوات المقبلة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتحالفها مع إدارة ترامب. هذا هو المتوقع، ولكن قد تحدث تطورات أخرى تؤثر على مدى أولوية الشرق الأوسط في سياسة هذا التحالف. ومع تصاعد التوتر في بحر الصين وشرق آسيا، وتصاعد احتمالات المواجهة مع كوريا الشمالية، فكل الاحتمالات مفتوحة.
ويمكن القول أن التدخل الروسي بشكله الحالي في أوضاع المنطقة لم يكن متوقعا بالشكل الذي حدث. هذا التدخل ليس نهائيا بل يخضع لاعتبارات أخرى خصوصا علاقة ترامب ومواقفه مع روسيا. ومن السابق لأوانه التبنؤ بما إذا كان التدخل الروسي سيؤدي لحرب باردة جديدة. ولكن المؤكد انه لن يؤدي إلى تصاعد الصراع مع أمريكا، وفي الوقت نفسه سيكرس الواقع السياسي للأمة، وسيترك الأبواب مفتوحة لاحتقانات إضافية. وستكون سياسات كل من تركيا ومصر من العوامل التي ستحدد طبيعة الاقتسام الأمريكي ـ الروسي على النفوذ. الفرق هذه المرة عما حدث خلال الحرب الباردة أن خطوط التمايز الأيديولوجي بين أنظمة الحكم العربية ليست واضحة كما كانت عليه سابقا. فالسعودية التي تعترض على الدعم الروسي لسوريا تسعى لتقوية علاقاتها مع الروس وتخصص استثمارات ضخمة في شكل صفقات سلاح وفي مجالات أخرى من التعاون الاقتصادي. والعراق المحسوب ضمن التحالف الروسي ـ الإيراني ـ السوري هو الآخر يخضع لنفوذ أمريكي يتصاعد. كما أن تركيا ومصر اللتين تشهد علاقاتهما توترا بسبب الموقف من جماعة الأخوان المسلمين، فتسعيان لتطوير علاقاتهما مع روسيا مع الاحتفاظ بصداقة أمريكا. أما اليمن، فهي الأخرى لم تتحول إلى قضية استقطاب حاد بين الفرقاء. فروسيا ليست طرفا في الحرب، ولا تدعم الجناح المدعوم من قبل إيران. كما أن أمريكا وبريطانيا تتدخلان بدوافع مصلحية وليست مبدئية. فهما تتعرضان لضغوط من منظمات حقوقية واغاثية لوقف إرسال الأسلحة إلى أطراف النزاع، بينما تنظر أمريكا إلى استمرار الأزمة أنه خطر على أمنها القومي بسبب انتشار تنظيم القاعدة وتغوله في المناطق الواقعة تحت نفوذ التحالف الذي تقوده السعودية. كما أن الأمارات لها سياسة وأهداف خاصة بها وتسعى لتوسيع نفوذها في منطقة باب المندب، والهيمنة على ميناء عدن لمنع تأثيره على ميناء جبل علي في دبي.
هذه الحسابات السياسية بين الحكومات من بين أسباب التوتر الذي يسود المنطقة لأنها هي التي تحدد مواقف هذه الدول وسياساتها الإقليمية. إنها حسابات انطلقت في إثر ظاهرة «الربيع العربي» التي لا يمكن تجاوزها تماما أو منع تكررها. ومن يراقب الأوضاع بقدر من الحياد يكتشف أن قمع تلك الظاهرة قبل ستة أعوام إنما ساهم في تأجيلها ولم يلغها. فالصراع من اجل التغيير لا يمكن أن ينتهي إلا بحصول ذلك التغيير. أما الرهان على تخدير الشعوب العربية أو إلهائها بقضايا مفتعلة كالتطرف الفكري والديني أو الإرهاب أو الطائفية، فهي ظواهر ظرفية لا يمكن أن تشكل مسارات للمجتمعات التي تعاني من غياب الحرية والعدالة. وبرغم المبالغة في إذكاء التوتر المذهبي، فأن لدى هذه الأمة مجسات تساعدها على العودة إلى طريق الصواب إذا ما ابتعدت عنه. فليس من أولويات الأمة السعي لاجتثاث الطرف الآخر المختلف فكريا أو دينيا أو مذهبيا مع الأغلبية السكانية. والزيارة الأخيرة التي قام بها البابا لمصر تؤكد الشعور العام بضرورة التقارب بين الأديان والمذاهب والاحترام المتبادل في ما بينها، والتخلي عن عقلية الإقصاء والاستئصال، ورفض أيديولوجيات التكفير والتطهير العرقي والعنصري. وبموازاة ذلك مطلوب من علماء الدين المسلمين تأكيد العلاقات الإنسانية والإسلامية بين سكان العالمين العربي والإسلامي، وأبعاد الاختلافات الفقهية عن دوائر الخلاف السياسي.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2017/05/01