افتعال الأزمة مع قطر بداية نهاية مجلس التعاون
د. سعيد الشهابي
مصير غامض ينتظر مجلس التعاون الخليجي بعد القرار السعودي بمحاصرة قطر، إحدى دوله الست. هذا المجلس الذي تأسس قبل 36 عاما لتحصين الدول الأعضاء ضد الانعكاسات المحتملة للثورة الإسلامية في إيران التي كانت في ذروة مدها الثوري آنذاك، بقي صامدا أمام العواصف الإقليمية والدولية، واستطاعت السعودية، الحفاظ عليه من خلال دبلوماسية تميزت بالهدوء والحذر. وقد عصفت به حوادث داخلية عدة مرات، وتغيب عن حضور قممه بعض قادة دوله لأسباب سياسية وصحية، ولكن تلك القمم عقدت بشكل شبه منتظم، وأن كانت في الأعم الأغلب بروتوكولية. الأمر المؤكد أن العاصفة الحالية التي افتعلتها السعودية مختلفة عن كافة التحديات السابقة، فهي أخطر وأعمق وأوسع. فقد أحدثت حالة استقطاب غير مسبوقة، شطرت المجلس إلى فريقين: أحدهما تمثله السعودية والإمارات والبحرين، ويضم الآخر قطر وسلطنة عمان والكويت. الخطر الحالي الذي يحدق بالمجلس ليس غريبا، فقد كان هذا الخطر ماثلا دائما، ولكن في ظل ضبط النفس والشعور العميق بالمصير المشترك، تم تغليب المصلحة العليا على الاعتبارات الذاتية لكل من دوله. ولكن هذا المنطق تراجع كثيرا في السنوات الأخيرة، خصوصا مع تغير زعامات دوله ورحيل الآباء المؤسسين.
ويمكن الإشارة إلى أن حاكمي الكويت وسلطنة عمان هما الوحيدان اللذان كان لهما دور مباشر في تأسيس المجلس الذي تأسس وفق ورقة كويتية رسمت معالمه وأقرها بقية الحكام. ويمكن القول أن المجلس كان الوحيد من التحالفات العربية الذي استطاع البقاء طوال هذه الفترة وأن كان قد تحول تدريجيا إلى أداة بيد «الشقيقة الكبرى». هذا الوجود الشكلي بقي رمزا لتحالف أنظمة دول الخليج التي تتميز بنظامها السياسي الخاص، وتشكلت له عبر العقود اذرع تنفيذية محدودة التأثير اهمها قوات درع الجزيرة التي بقيت تحت المظلة السعودية وفقدت دورها بمرور الوقت، ولم تستخدم إلا في حالات خاصة كاجتياح البحرين في العام 2011.
كان لدخول قوات درع الجزيرة في المنامة آثار سلبية على قضايا الأمن والاستقرار والعلاقات بين الشعوب والحكام لأسباب عديدة: أولها أن التحالف العسكري الخليجي كان يفترض أن يخصص للدفاع عن دول المجلس عندما تتعرض لعدوان خارجي. بينما استخدمت في البحرين لقمع ثورة شعبية سلمية لا تستدعي تدخلا عسكريا. وبذلك ارتكبت أول مخالفة لقواعد المجلس وأسسه. ثانيها: أنها أحدثت إرباكا عقيديا لدى شعوب المنطقة وأوصلت لها رسالة مفادها أن التحالف العسكري أداة لحماية الأنظمة وليس الشعوب. ثالثها: أن قوات درع الجزيرة التي تتخذ من قاعدة حفر الباطن السعودية مقرا تصدرت التدخل في البحرين بينما لم تفعل شيئا أبدا عندما اجتاحت القوات العراقية في عهد صدام حسين الكويت في الثاني عام 1990، برغم أن القاعدة المذكورة لا تبعد عن حدود الكويت سوى أقل من 120 كيلومترا. وبدلا من استخدامها للدفاع عن سيادة الكويت، استدعت السعودية قوات أجنبية بقيادة أمريكا لشن حرب كانت لها تبعات ألقت بظلالها على المنطقة حتى اليوم. رابعا: أن امتناع سلطنة عمان وقطر والكويت عن المشاركة في التدخل العسكري في البحرين لم يلق استحسانا لدى السعودية التي كانت تأمل تعاونها. ولكل من هذه الدول أسبابه لعدم المشاركة في ذلك التدخل.
برغم العلاقات الودية الظاهرة مع الرياض فهناك من مشاعر القلق من النوايا السعودية الشيء الكثير، خصوصا أن لديها أزمات حدودية مع كافة دول المجلس وغيرها. وتعلم حكومات دول مجلس التعاون أن لدى الرياض أطماعا توسعية تمثلت بعدد من الحقائق: الأولى: الصراع الذي امتد عقودا من أجل السيطرة على واحة البريمي المشتركة مع عمان والإمارات. وكان ملف الحدود السعودية مع الإمارات قد سلم في 2004 للأمير نايف بن عبد العزيز (الذي كان وزيرا للداخلية)، في حين تسلمه في الإمارات نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدولة للشؤون الخارجية حمدان بن زايد آل نهيان. وكان البلدان وقعا عام 1974 بجدة اتفاقية نصت على تخلي الرياض عن مطالبتها بواحة البريمي. وفي المقابل تخلت أبو ظبي عن خور العيديد الذي يشمل منطقة ساحلية بطول 25 كلم تقريبا تفصل بين أراضي أبوظبي وقطر وهي غنية بالنفط والغاز. وفي السابق لم يكن للسعودية ممر إلى خور العيديد، بل كانت الحدود بين الإمارات وقطر متصلة. أما الآن فقد أصبحت مفصولة بعد أن تمكن السعوديون من السيطرة على المنطقة المذكورة. في العام 2010 كادت العلاقات تنقطع بين البلدين عندما أطلق زورقان تابعان للإمارات النار على زورق سعودي في خور العيديد واحتجز اثنان من أفراد الحرس الحدود السعودي، وحتى الآن ما تزال الحدود البحرية بين البلدين غير متفق عليها.
الثانية: السيطرة السعودية على حقل الشيبة الذي كان بحوزة الإمارات. تتمثل الخلافات الحدودية بين السعودية والأمارات في شقها الثاني بمشكلة ترسيم منابع النفط، حيث تسيطر السعودية على الجزء الأكبر من حقل الشيبة، في الوقت الذي تحاول فيه الإمارات التمسك بحقها في ملكية الحقل مستندة إلى خرائط ومستندات رسمية. وبحسب نص الإتفاقية الموقعة بين الإمارات والسعودية بشأن حقل الشيبة، تدعي الإمارات أن الحقل العملاق يقع ما نسبته 80 في المئة ضمن أراضيها وتملك الحق في تطوير هذا الحقل والاستفادة من إنتاجه النفطي بشكل كامل. ويبلغ إنتاج الحقل نصف مليون برميل يوميا. ولكن السعودية سيطرت عليه تماما وعندما افتتح في العام 1999 تغيب وزير خارجية الإمارات عن حضور حفل الافتتاح.
الثالثة: إصرار السعودية على حقها في تحديد الحدود مع البحرين وفق مصالحها مستغلة ضعف حكومتها نتيجة الاضطرابات السياسية المتواصلة في ذلك البلد. ففي الثمانينيات وضعت يدها على جزيرتي «البينة» الواقعتين في الممر المائي بين البلدين، ولم يذكر شيء عن ذلك في أي تقرير إعلامي. وكان مواطنو البحرين يرتادون الجزيرتين بحرية ولكنهم لا يستطيعون الآن بعد أن أصبحت الجزيرتان تحت الهيمنة السعودية. وترفض السعودية وضع «حقل أبوسعفة» النفطي تحت الإدارة البحرينية برغم أن أغلبه يقع ضمن المياه الإقليمية للبحرين. وتصر على احتفاظها (من خلال شركة أرامكو) بحق إنتاج النفط وتصديره من ذلك الحقل، ويبلغ إنتاجه في الوقت الحاضر 320 ألف برميل يوميا. وتصر السعودية على الاحتفاظ بالسيادة المطلقة على ذلك الحقل.
الرابعة: الإصرار على البقاء بمنطقة الخفجي الكويتية. وقد بدأت الخلافات الكويتية السعودية حول حقل الخفجي في عام 2009، على خلفية تجديد السعودية العقد مع شركة «شيفرون تكساكو»، لثلاثين عاماً، بدون التنسيق مع الجانب الكويتي، وذلك بعد انتهاء العقد الموقع في عام 1959 واستمر طيلة الخمسين عاماً الماضية. وسبب الأزمة أن الجانب الكويتي افترض أن تجديد العقد مع شركة شيفرون بدون العودة إليه، يقتضي أن تصدّر السعودية النفط عن طريق عمليات الخفجي، وليس من ميناء الزور القائم على الأراضي الكويتية؛ لأن الكويت ليست طرفاً في الاتفاقيّة مع شيفرون، ولم يأخذ أحد رأيها فيها. وفي أوائل أكتوبر/تشرين الأول 2014، قررت السلطات السعودية إغلاق حقل الخفجي البحري، الذي تتقاسم إنتاجه الكويت والسعودية، حيث ذكرت المصادر السعودية أن سبب الإغلاق يعود لأسباب بيئية. وهكذا استمرت الأزمة قائمة حتى الآن، بينما كانت الكويت تخطط لبناء مصفاة كبيرة في المنطقة، ولكن المشروع ما يزال معطلا بسبب التعنت السعودي. كما أن هناك غموضا بسبب عدم تسوية وضع جزيرتي أم المرادم وكارو، اللتين تطالب الكويت بضمهما إلى سيادتها، بينما تطالب السعودية بممارسة السيادة المشتركة مع الكويت عليهما.
الخامسة: تتمثل بسيطرة السعودية على المنطقة المحايدة مع العراق. ففي العام 1922، حُدّدت معظم الحدود بين البلدين؛ ونتج عن ذلك تكوّن المنطقة المحايدة، ولا يُسمح فيها ببناء المنشآت العسكرية أو الدائمة. ثم ألغى العراق كل الاتفاقات المبرمة مع السعودية عام 1968 عند اقتراب حرب الخليج الأولى، وردّت السعودية بتوثيق جميع الاتفاقيات الحدودية التي تفاوضت بشأنها مع العراق في الأمم المتحدة، وذلك عام 1991؛ وبالتالي انتهى الوجود القانوني للمنطقة السعودية العراقية المحايدة، ويقول العراقيون أن السعودية استحوذت على أغلب تلك المنطقة.
السادسة: لا تخلو الحدود السعودية ـ الأردنية من مشاكل. ففي العام 1965، وقعت اتفاقية حدودية تم بموجبها تعديل مسار الحدود الذي رسم في 1925 في منطقة حداء، وبناءً عليها، صار الخط الحدودي الجديد، يبدأ على بعد 25 كيلومترًا إلى الجنوب من العقبة، أي أن الأردن حصل على مساحة إضافية تبلغ ستة آلاف كيلومتر مربع، على ساحل خليج العقبة، بينما حصلت السعودية على بعض الأراضي الداخلية تبلغ مساحتها سبعة آلاف كيلومتر مربع، تقع إلى الغرب من الحوض الرئيسي لوادي السرحان. وبرغم أن هذه الاتفاقية قد أنهت النزاع الحدودي بين الطرفين إلا أنها ما زالت تثير اعتراضات أردنية تؤكد أنه تم تسليم أراضٍ أردنية إلى السعودية بدون إجراء أي مسوحات خاصة، بعد وجود اكتشافات نفطية توصلت لها شركة أرامكو في تلك المناطق.
السابعة: تمثل الحدود مع اليمن واحدة من أطول النزاعات الحدودية العربية وأهمها وأكثرها حدة وتعقيدًا. وكانت المرحلة الحاسمة سنة 1934 بتوقيع معاهدة الطائف من الجانب اليمني تحت وطأة الانهزام في الحرب؛ ما أفقدها الشرعية الدولية، وهو ما يعد مبطلًا للمعاهدات الدولية؛ وسيطرت السعودية بهذه المعاهدة على حدود عسير ونجران وجازان الجنوبية. في عام 2000، وافق الرئيس اليمني المخلوع علي عبدالله صالح، على توقيع اتفاقية مع السعودية، تضمنت إعادة تأكيد الحدود التي رسمتها معاهدة الطائف، مما اعتبر تأكيدا على تنازل اليمن عن ما بقي يُطالب به من أراضٍ يمنية منذ عام 1934 وحتى عام 2000. وتطالب اليمن باستعادة الأراضي التي تضم في أعماقها احتياطات هائلة من النفط والغاز، تُقدّر بمليارات الدولارات. ومن بين أهداف الحرب الحالية التي تشنها السعودية على اليمن ضمان الحصول على ممر يوصل السعودية بالبحر العربي على غرار ما فعلته بين الإمارات وقطر. كيف تستقر منطقة الخليج ما دامت هذه الخلافات قائمة؟
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2017/06/19