القدس مدينة مقدسة حرة برغم القرار الأمريكي
د. سعيد الشهابي
لم يكن قرار الرئيس الأمريكي الاعتراف بمدينة القدس عاصمة للكيان الإسرائيلي مفاجئا، فقد كرر عزمه على ذلك منذ الأيام التي خاض فيها حملته الانتخابية. وبرغم ما يقال عن دونالد ترامب، فانه كان واضحا إزاء العديد من القضايا، ولم يجد نفسه مضطرا للتراجع عن تلك الوعود لأنه لم يواجه معارضة حقيقية خصوصا من الجهات التي تملك وسائل ضغط سياسية أو اقتصادية. فلم تكن هناك مقاومة جادة لأطروحاته، بل كانت الدبلوماسية هي التي تؤطر مواقف دول العالم، وهي دبلوماسية تتحاشى التصادم المباشر مع رئيس اكبر دولة. ولكي يكون الاعتراض على سياساته مؤثرا، يفترض ان يشعر المواطن الأمريكي أن وجود هذا الرئيس يمثل خطرا على هويته ومصالحه. فمثلا لو رفض الحكام العرب استقباله ولم يستقبلوه في الرياض وكأنه قائد مظفر، ولو أفشلوا رغبته في استحصال مئات المليارات من الدولارات التي قال أنه سيستخدمها لتوظيف الأمريكيين العاطلين عن العمل، لربما اضعفوا وجوده السياسي لان شعاراته الانتخابية ستكون قد تبخرت.
لو أن الشعوب العربية والإسلامية فعلت كما فعل بعض الشعوب الغربية التي أجبرت حكوماتها على رفض زيارته بلدانها كما حدث في بريطانيا لكان ذلك ضغطا عليه لإعادة النظر في سياساته. الغريب في الأمر أنه حتى بعد إصدار قراره المشؤوم الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الإسرائيلي، لم تصدر الدعوات لقطع العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، وكأن تلك العلاقات أمر مقدس لا يمكن المساس به. ألم تكن علاقات كوبا بأمريكا مقطوعة خمسين عاما؟ أليست العلاقات بين طهران وواشنطن مقطوعة منذ قرابة الأربعين عاما؟ لقد كانت سياسات أوباما المختلفة تماما عن سياسات ترامب هي التي مدت الجسور مع كوبا وبدأت تواصلا محدودا مع إيران.
ثمة حقائق متصلة بظاهرة ترامب يجدر ذكرها لاستشراف بعض ملامح المستقبل المنظور لتوازن القوى بين الولايات المتحدة والعالمين العربي والإسلامي. أولها أن الإدارة الأمريكية في عهد ترامب تحمل أجندة عنصرية صهيونية مكشوفة وأنها تصر على تنفيذها. الثانية: أنه بالرغم من أن ترامب هو الذي يتصدر المشهد السياسي إلا أن المؤسسة الأمريكية لم تعوق تلك الاطروحات. فإدارته تنفذ أوامره، وحزبه الجمهوري الذي لم يرتبط به إلا عندما قرر خوض معركة الرئاسة الأمريكية، لم يتمرد عليه، وأن الشعب الأمريكي بعمومه فشل في إظهار اعتراضات حقيقية على سياساته. ثالثا: أن من أهم العوامل التي شجعته على مواصلة مشروعه في الشرق الأوسط تهافت بعض الزعماء لكسب وده والاستقواء به على مناوئيهم. وعندما أعلن قراره الأخير لم يجرؤ أحد منهم على إعلان موقف عملي رادع، أما التصريحات التي صدرت عن العواصم العربية والإسلامية فكانت استجابة متواضعة للغضب الذي انتاب الجماهير، وكانت بروتوكولية فحسب وتفتقد الجدية والحزم، كما لم تصل مستوى التهديد بقطع العلاقات أو تجميد بعض جوانبها على الأقل خصوصا الاقتصادية. فلو صدر عن الجامعة العربية مثلا قرار يمهل واشنطن أسبوعا لإلغاء القرار قبل إعادة النظر في العلاقات، لكان ذلك ضغطا حقيقيا لن تستطيع أمريكا تجاهله.
أما بيان وزراء الخارجية العرب يوم أمس بإدانة القرار واعتباره «باطلا وخرقا خطيرا للقانون الدولي ولقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة ذات الصلة» فلا يبعث رسالة قوية لواشنطن. ولو أن القرار شمل أيضا إشارة لاستخدام النفط سلاحا في المناكفة لكان لذلك أثره. ومن المؤكد أن تحركات الشعوب واحتجاجاتها سيكون له أثره فيما لو تواصلت وتصاعدت. رابعا: لو أن الدول العربية والإسلامية أعلنت تجميد خلافاتها والالتقاء على طريق التصدي للمشروع الأمريكي الصهيوني لكان ذلك رسالة بليغة للإدارة الأمريكية. فمثلا لو أعلنت السعودية وحليفاتها وقف عدوانها على اليمن وتجميد خلافاتها مع قطر لكان لذلك صدى كبير لدى الشعوب وفي واشنطن والعواصم العالمية.
ولكن برغم غياب ردة الفعل المناسبة من الأنظمة العربية فقد كانت الشعوب الإسلامية أكثر حضورا في ميدان التصدي للإعلان الأمريكي الذي كان بمثابة إعلان حرب عليها نظرا لما تمثله القدس من أهمية في الوجدان الإسلامي والإنساني. والملاحظ أن ردة فعل الجماهير في العالم العربي برغم حجمها، إلا أنها لم تكن بمستوى الحدث. وما عدا الشعب الفلسطيني الذي استشهد عدد من أبنائه في المواجهات والقصف الصهيوني، لم يكن هناك احتجاجات ميدانية إلا في بلدان محدودة مثل تونس ومصر والبحرين ولبنان واليمن.
وشهد شرق العالم الإسلامي حضورا ميدانيا واسعا ابتداء من إيران إلى باكستان والهند وماليزيا واندونيسيا. وتصدى علماء الدين بمواقف تستحق التقدير، ضد القرار الأمريكي. فأعلن شيخ الأزهر دعمه للدعوات التي صدرت لانتفاضة فلسطينية جديدة، ورفض مقابلة مبعوث ترامب، وأصدر المرجع الأعلى في العراق، السيد علي السيستاني، استنكارا شديدا ودعا لحضور شعبي رافض للقرار. كما أصدرت الزعامات الدينية والسياسية في أغلب البلدان العربية والإسلامية مواقف مشابهة. ماذا يعني ذلك؟ وما دلالات وحدة مواقف العرب والمسلمين، برغم ضعفها النسبي؟ وكيف يمكن الحفاظ على هذه الروح العربية والإسلامية التي تعالت على عوامل التشتت والتصدع، والتفت جميعا حول قضية فلسطين؟
عندما صدر القرار الأمريكي كان مؤتمر الوحدة الإسلامية منعقدا في طهران، بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف. هذه المرة كان الحضور متنوعا وشمل بعض وزراء الخارجية السابقين من العرب والمسلمين. أحدث القرار صدمة كبيرة للمؤتمرين، فما استطاع أحد من المتحدثين تجاوزها، بل ألقت بظلالها على جدول أعمال المؤتمر،. بدأ ذلك بالكلمة الافتتاحية للرئيس الإيراني، حسن روحاني، الذي تحدث بلغة غاضبة ودعا لتوحيد الجهود لتحرير فلسطين. وكانت نبرة السيد علي خامنئي، مرشد الجمهورية الإسلامية، أشد غضبا إزاء المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة، وأكد ضرورة التصدي له بدعم الفلسطينيين ونهضة الشعوب الإسلامية لاستعادة هويتها وتركيز جهودها باتجاه فلسطين. أما الحاضرون فقد كانت أحاديثهم الأساسية والجانبية مشدودة الى هذه القضية نظرا لما تمثله من تحد مكشوف لأمة أكد السيد جواد العناني، نائب رئيس الوزراء الأردني أن عددها يبلغ 1،9 مليار إنسان. ويمكن الادعاء بأن القضية هيمنت على المؤتمر الذي خاض في نقاشات عميقة حول عنوانه الأساس: «الوحدة ومستلزمات الحضارة». ولم يغب عن أذهان الحاضرين العلاقة بين المفردتين، وأن الحضارة لا تقوم إلا في ظل وحدة الأمة ووعيها في مناخات من الحرية والاستقرار. وترددت في كلمات المشاركين قضية فلسطين وكأنها عنوان المؤتمر. ولذلك أكد البيان الختامي عليها بشكل واضح مطالبا بالتصدي للخطط الأمريكية والإسرائيلية الهادفة لكسر شوكة شعبها من أجل ضمان استمرار احتلالها. ومن الأمور التي تكررت في مداولات المؤتمر ما يلي: أولا: أن العدو يتربص بهذه الأمة ويستغل شتاتها وتصدع جبهاتها للإجهاز عليها. ثانيا: أن فلسطين ستظل القضية الجوهرية التي تجمع هذا الشتات ماضيا وحاضرا. ثالثا: أن إعلان الإدارة الأمريكية الأخير باعتبار القدس عاصمة للكيان الإسرائيلي يجب أن يكون دافعا لنهضة فلسطينية وعربية وإسلامية ترتكز على الإيمان والوحدة والحق والحرية ورفض الاحتلال والهيمنة. رابعا: أن المسلمين مطالبون بإعادة بناء حضارتهم، وهذا لن يتحقق إلا بوحدتهم من جهة وتفعيل دور العقل في حياتهم، ونبذ الصراعات المفتعلة في ما بينهم.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2017/12/11