إيران تستقبل الذكرى الـ39 لثورتها وسط توترات محلية وإقليمية
د. سعيد الشهابي
الاحتجاجات التي شهدتها المدن الإيرانية الأسبوع الماضي كانت في أساسها بدوافع اقتصادية، بعد أن تضافرت عوامل عديدة لترفع معدلات التضخم والأسعار ونسب البطالة. ولكنها سرعان ما تحولت إلى حوادث شغب ودعوات تستهدف النظام الإسلامي الذي تأسس بعد انتصار الثورة قبل أربعة عقود. والاحتجاجات من هذا النوع طبيعية خصوصا في الدول الكبرى والديمقراطية. وما أكثرها في العواصم الغربية التي تشهد احتجاجات وتظاهرات للأسباب نفسها. وتشهد عواصم مثل لندن وباريس حوادث مشابهة بين الحين والآخر خصوصا في ظل سياسات التقشف التي تنتهجها حكومات هذه الدول. بل أن جوهر الممارسة الديمقراطية في أغلب هذه البلدان يتأثر كثيرا بالأوضاع الاقتصادية ويتم انتخاب حزب دون غيره لأن سياساته الاقتصادية أو أداءه في الحكم يستهوي الناخبين.
ومنذ عقود تعاني الجمهورية الإسلامية الإيرانية من أوضاع اقتصادية ضاغطة لأسباب عديدة: أولها القيود التي فرضت عليها بعد الثورة التي أخرجتها من الفلك الغربي. وساهمت أزمة الرهائن الأمريكيين في فرض حصار استمر حتى الآن. ثانيها: إن الحرب العراقية ـ الإيرانية ساهمت في الضعف الاقتصادي، فقد استهلكت قسما كبيرا من الدخل القومي وأحدثت دمارا احتاج عقودا لإصلاحه، وقلصت الصادرات النفطية أما نتيجة قصف موانئ التصدير في جزيرتي خرج وسيري أو بسبب الحصار وامتناع الدول الغربية عن استيراد النفط الإيراني. ثالثها: بروز الملف النووي قبل خمسة عشر عاما الذي ساهم في إحكام الحصار ليشمل الجانب المصرفي، فلم تستطع إيران استلام العائدات النفطية عبر الوسائل المصرفية المعتادة. رابعها الزيادة الكبيرة في عدد السكان، إذ تجاوز 80 مليونا، مع تراجع العائدات في الوقت نفسه. ويسجل لإيران أن أربعة عقود من الحصار الاقتصادي ساهمت في تحريك أدمغة قادتها وعلمائها ليتوجهوا نحو التصنيع بأشكاله المتعددة والاهتمام بالإنتاج الزراعي لتحقيق قدر من الاكتفاء الذاتي.
وثمة من يقول أن التحاق إيران بما يسمى «الاقتصاد الحر» كان من عوامل تأزيم الأوضاع الاقتصادية. فبعد توقيع الاتفاق النووي في العام 2015 تصاعدت توقعات الشعب وآماله بانفراج اقتصادي واسع، خصوصا أن الدول التي وقعت عليه (الدول الخمس الدائمة العضوية بمجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا) قدمت وعودا مغرية برفع الحصار وإعادة الأموال المحتجزة في الخارج. ويتضح اليوم أن العائد الاقتصادي من ذلك الاتفاق لم يكن بمستوى طموح الجماهير وآمالها. ففي مقابل استعادة إيران جزءا من مستحقاتها المالية من الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية، إلا أنها قليلة جدا إذا قورنت بالموازنة السنوية التي تبلغ 110 مليارات دولار. وفي الوقت نفسه انخفضت أسعار النفط إلى ما دون النصف مقارنة بما كانت عليه قبل عشرة أعوام تقريبا. ومع أن إيران سعت لزيادة صادراتها النفطية وأطلق مسؤولوها تصريحات تشير إلى إمكان رفع الصادرات إلى أكثر من أربعة ملايين برميل يوميا، إلا أنها لم تتجاوز 3 ملايين في ذروتها في شهر آذار/مارس الماضي. وهكذا تقلصت العائدات النفطية في الموازنة إلى اقل من 40 مليارا في العام. وكان حريا بالرئيس الشيخ حسن روحاني أن يدرك بشكل واقعي الصعوبات الاقتصادية التي يعاني المواطنون منها وأن لا يلجأ لرفع الدعم عن بعض الاحتياجات الحياتية الملحة كالخبز والبنزين. وفي خطابه أمام البرلمان الشهر الماضي الذي طرح فيه موازنة للسنة المالية المقبلة (التي تبدأ في شهر آذار/مارس) قال إنها ستؤدي إلى «توفير فرص عمل وبذلك يتقلص معدل البطالة (الذي وصل إلى 13 بالمائة حسب الأرقام الرسمية) وتتراجع حالة الفقر وتتحقق العدالة الاجتماعية». ولذلك فحين اندلعت الاضطرابات تساءل الكثيرون عن مدى واقعية التوقعات من تلك الموازنة. هذا مع العلم أن أرقام صندوق النقد الدولي تشير إلى نمو الناتج المحلي بمعدل 12.5 بالمائة في العام الذي سبقها.
مناهضو النظام الإسلامي يركزون على مخصصات بعض القطاعات العسكرية والأمنية، ويرون فيها توسعا غير مقبول. وخلال الاحتجاجات الأخيرة أشار البعض إلى دعم إيران لما تسميه «حركات المقاومة» وهو عنوان ارتبط بهوية الثورة وأهداف قادتها منذ أربعة عقود. فهناك دعم لمجموعات المقاومة اللبنانية والفلسطينية، وبعض المجموعات المسلحة العراقية، بالإضافة للأنفاق على الحرس الثوري وقوات التعبئة الشعبية ومكتب الولي الفقيه. وليس في هذا جديد، لأن موازنات دول العالم تتضمن بنودا مشابهة. فنظام الحكم الإيراني يعتبر الحرس الثوري ضمانة ضد أية محاولة لزعزعة أمن النظام أو الانقلاب العسكري عليه. وقد تعلم القادة الإيرانيون درسا بليغا من تجربة الانقلاب على الرمز الوطني التاريخي، محمد مصدق، الذي دبرت الاستخبارات الأمريكية والبريطانية انقلابا عليه في 1952.
ولدى الدول الأخرى مؤسسات على غرار الحرس الثوري. فقد كان لدى النظام العراقي في عهد صدام حسين «الحرس الجمهوري» المكلف بحماية النظام ورئيسه وحزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم. ولدى المملكة العربية السعودية «الحرس الوطني» الذي بقي عقودا تحت قيادة الأمير عبد الله بن عبد العزيز آل سعود. وحتى الحكومات «الديمقراطية» الغربية تمتلك أجهزة استخباراتية أو أمنية خاصة، فلدى بريطانيا قوات SAS التي تفتخر بها المؤسسة الحاكمة وتستخدمها لحماية النظام في الداخل وبسط النفوذ خارج الحدود. وهكذا أصبحت تعقيدات الدولة الحديثة تتطلب تشكيلات خاصة لحماية نظامها السياسي ومنع الانقلابات أو التصدي للإرهاب المنظم وكافة محاولات التخريب والشغب. ويعتبر النظام الإيراني من أبلغ مصاديق الادلجة السياسية. فهو لا يخفي طبيعته وأهدافه بل يطرحها ويدافع عنها.
إيران بين الضغوط الاقتصادية داخليا والاستهداف السياسي الخارجي، إلى أين تسير؟ وما مدى الأخطار الداخلية والخارجية التي تهدد أمنها ونظامها؟ ثمة حقائق يجدر ذكرها: الأولى أن المواطن الإيراني يواجه صعوبات معيشية كبرى لا يجوز التقليل من شأنها، وأسبابها عديدة تم التطرق لبعضها أعلاه، الثانية: إن إيران مستهدفة من أعداء يزدادون شراسة، تتصدرهم الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي لأسباب معروفة. ثالثها: إن هناك قوى إقليمية تستهدف إيران بدعوى تمدد نفوذها الإقليمي في العراق وسوريا ولبنان واليمن. رابعها: أن إيران، كغيرها من البلدان، تعاني من تعدد مراكز القوى والتباين الفكري والاختلاف الايديولوجي، وأن هناك تيارات تعتقد بضرورة التركيز على الداخل والانكماش في الخارج، وترفض توسع النفوذ الإيراني في المناطق المذكورة. خامسها: أن الاستهداف الخارجي ليس موجها لإيران فحسب، بل أن دولا إسلامية كبرى أصبحت في مرمى إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب. فقد استهدفت تركيا العام الماضي بمحاولة انقلابية خطيرة لا تنفصل عن الرغبات الأمريكية، ووجه ترامب مؤخرا سهامه نحو باكستان مهددا بقطع المعونات عنها ومدعيا بدعوى أن أمريكا تدفع ولا تحصل شيئا في المقابل.
وقال في إحدى تغريداته مؤخرا: «أن باكستان لم تعطنا شيئا سوى الخداع والكذب». وأضاف أن باكستان «تؤوي الإرهابيين الذين نتعقبهم في أفغانستان». وقد قررت إدارته الأسبوع الماضي تعليق الدعم المالي الذي يتجاوز المليار دولار سنويا. وباستهداف هذه الدول الثلاث اتضحت الرسالة الأمريكية للعالم الإسلامي بأنه يسعى لتركيعها جميعا كما فعل بالسعودية. وجاء في الكتاب الذي يعتزم كبير مستشاري الرئيس الأمريكي السابق،ستيف برانان إصداره بعنوان «النار والغضب: في بيت ترامب الأبيض» أن الرئيس الأمريكي أخبر أصدقاءه أنه هندَس انقلابا في السعودية مع صهره جاريد كوشنر، وذلك بعد تولي محمد بن سلمان منصب ولي العهد في السعودية. ونسب إلى ترامب تغريدة تقول: «لقد وضعنا رجلنا في القمة». هذه الحقائق دفعت الرئيس التركي، طيب أردوغان، الذي يزور فرنسا للقول: «لا يمكننا أن نقبل تدخل بعض الدول على رأسها إسرائيل وأمريكا في شؤون إيران وباكستان».
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2018/01/08