السرية المريبة
د. علي محمد فخرو
أصبحت السرية المريبة صفة ملازمة للمشهد السياسي العربي. كما أصبحت ممارستها من قبل بعض القيادات السياسية العربية إدمانا مرضيا خطيرا.
لنأخذ على سبيل المثال موضوع « صفقة العصر» التي تتناولها وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي العربية ليل نهار. لا أحد يعرف على وجه التأكيد من الذي طبخها في مهدها، ومن الذي ينتقل في ما بين العواصم العربية ليسوقها، ومن الذي قبل بأن يأكلها ومن رفض أن يمسها. هناك تخمينات كثيرة، ولكن ليست هناك حقائق رسمية مؤكدة.
الأمر نفسه ينطبق على موضوع الادعاء الأمريكي بوجود العديد من الحكومات العربية التي جرى إعلامها والحصول على موافقتها، وذلك قبل أن يأخذ الرئيس الأمريكي قراره الفضائحي المشين بالاعتراف التوراتي بالقدس عاصمة للكيان الاستعماري الاستيطاني في فلسطين العربية المحتلة. من هم القادة العرب الذين نصبوا أنفسهم كسماسرة للجهات الأمريكية المتصهينة، وعلى أي أساس فعلوا ذلك، وما هي المكاسب، إن وجدت، التي وعدت أمريكا بتقديمها لدول تلك القادة، أو لوضعها تحت تصرف طموحات هذا القائد أو ذاك المحلية؟ الأمر نفسه ينطبق على التلاعب الاستخباراتي التدميري الأمريكي في سوريا. فبعد أن فشلت أمريكا في تجزئه العراق وسلخ أقاليمه الشمالية عن الجسم الوطني العراقي التاريخي الواحد، فإنها تحاول الآن القيام بالتآمر التجزيئي نفسه، الذي لا تتعب من القيام به لصالح الكيان الصهيوني، في الشمال السوري. إنه محاولة أخرى لفصل ذلك الإقليم وشعبه عن الجسد الوطني التاريخي السوري، ويقدم كقرار لما يسمى بالتحالف الذي تقوده أمريكا. والسؤال، هل حقا إن الدول العربية المشاركة في ذلك التحالف المشبوه قد استشيرت؟ ومن هم القادة، في أرض أصبح فيها القادة مساوون للدول، الذين باركوا ما تريد أن تفعله أمريكا بدولة عربية شقيقة، وضربوا عرض الحائط بالتزاماتهم العروبية القومية، التي تقوم على الرفض التام المطلق لأي نوع من التجزئة لأي قطر عربي؟
قضايا بالغة الخطورة، وتمس المصالح القومية العربية الكبرى، تبحث في غرف مغلقة، ويتحدث عنها القاصي والداني، تخمينا وظنونا وهلعا، ونسمع غمغمات عنها من فم هذا الموظف العربي الصغير أو ذاك، بينما يبقى متخذو القرار صامتين كصمت القبور، وكأنهم ليسوا معنيين بالإجابة عن تساؤلات شعوبهم وعن مخاوف مجتمعاتهم.
إن هذا الوضع برمته، وهذه الطريقة التي يتعامل بها مع القرارات المصيرية الكبرى، أصبحت تثير الكثير من الريبة، وتكاد تؤكد ما يقوله البعض من وجود مؤامرات خفية تستهدف مستقبل الأمة والوطن العربي كله. نحن نعرف، بالطبع، أن ظاهرة السرية في اتخاذ بعض القرارات من قبل الحكومات هي ظاهرة عالمية. ولقد وصلت إلى أحقر درجاتها في الأكاذيب والسرية التي رافقت اتخاذ حكومتي أمريكا وانكلترا قرار غزو العراق واحتلاله. لكن هناك، في الدول الديمقراطية، وسائل إعلام تكشف المستور في النهاية، وهناك مجتمعات مدنية قوية تحاسب متخذي القرار، وتجعلهم من المنبوذين ومنكسي الرؤوس، لكن ماذا عن دولنا العربية، غير الديمقراطية، وحيث سلطات الدولة بلعت في جوفها مؤسسات المجتمع المدني، وحيث الإعلام يخضع لسوط الجهات الأمنية؟
هل سنستمر في السماح لأفراد قلائل، خاضعين هم بدورهم لفرد متسلط واحد، باتخاذ قرارات كبرى من دون مناقشات مجتمعية مسبقة، ومن دون مداولات في مؤسسات الجهات التشريعية، إن وجدت، ومن دون عرضها في النهاية على الاستفتاء إن احتاج الأمر لذلك؟ إن ما يثير الاشمئزاز هو إن الجماهير العربية على استعداد لأن تخرج في مظاهرات حاشدة صدامية عندما تتخذ قرارات في غرف مغلقة تمس أسعار الخبز والغاز والرسوم المختلفة، ولكنها تقف ساكنة غير مبالية عندما تتخذ قرارات مصيرية كبرى في الغرف المغلقة ومن قبل أفراد قلائل.
لنذكر هذه الجماهير المتثائبة بأنها كانت تخرج بالملايين في الشوارع لإسقاط معاهدة أبرمت مع هذه الدولة الاستعمارية أو تلك من دون علم الناس، بينما يجري الحديث الآن عن «صفقة القرن» فلا تحرك ساكنا لمعرفة جهات وأسماء ووسائل المتبنين لها والمتبرعين بنشر فضائل تلك الصفقة والعمل على قبولها. مرة أخرى نعود إلى موضوع الديمقراطية بمبادئها ومؤسساتها. من مبادئها حق الناس في المعرفة التامة لما تقوم به الدولة، وما تتخذه من قرارات. ومن مؤسساتها هو عدم السماح لأي سلطة بأن تستأثر باتخاذ القرار لوحدها. نذكر الذين يجلسون في غرف مغلقة ويتجرؤون في إعطاء وعود لدونالد ترامب أو ماكرون أو بوتين أو المجرم الصهيوني نتنياهو، نذكرهم بأن هناك شعوبا بحقوق وكرامة إنسانية وشراكة تامة في كل ما يمس الوطن، وطن الجميع، وليس وطنهم هم فقط. نذكرهم، بأن الملايين قد خرجت منذ بضع سنوات في الشوارع، وأنها قادرة على الخروج مرات ومرات. نذكرهم بأن السرية في الحياة العامة هي مثل السرية في الحياة الزوجية. إنها مقدمة للخيانة وللطلاق ولدمار العائلة، وفي الحياة العامة مقدمة لدمار الدول والأمم.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2018/01/18