بريطانيا وروسيا: تصعيد محسوب؟
جعفر الأحمر
تدرك ماي أنها لا يمكنها الاعتماد كثيراً على «الحلفاء» (أ ف ب)
لندن | تتفاقم أجواء المواجهة السائدة منذ سنوات بين روسيا والغرب عموماً، تزامناً مع الانتخابات الرئاسية الروسية غداً الأحد وقبل ثلاثة أشهر من كأس العالم لكرة القدم في روسيا. وجاء التوتر المستجد بين لندن وموسكو، على خلفية تسميم الجاسوس الروسي سيرغي سكريبال وابنته يوليا في سالزبري البريطانية، ليصبّ الزيت على النار.
غير أن تصاعد التوتر في العلاقات البريطانية الروسية ليس جديداً ولا «خطيراً» كما قد يتبادر إلى ذهن الكثيرين. مستوى العلاقات منخفض جداً منذ فترة طويلة، كما قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، خلال استضافته في موسكو نظيره البريطاني بوريس جونسون في 22 كانون الأول الماضي، في زيارة كانت الأولى لوزير خارجية بريطاني منذ خمس سنوات. إلا أنّ المفارقة تكمن في أنّ البلدين حريصان، رغم تدني العلاقات السياسية، على استمرار العلاقات الاقتصادية وتعزيزها
تعيش العلاقات البريطانية الروسية ذروة التوتر هذه الأيام على خلفية «حادثة سكريبال». استعار الحرب الكلامية والتهديدات المتبادلة، بما قد ينبئ بتصعيد بين البلدين، دفعا البعض إلى استحضار أجواء الحرب الباردة. هذا على الأقل لدى الجانب البريطاني، حيث كشف مجلس العموم في جلسته الأربعاء الماضي «مزاجاً قاسياً جداً» تجاه روسيا، في خطابات معظم المتحدثين، الأمر الذي عكسته بنحو أوضح وسائل الإعلام، خصوصاً الصحف، بعناوين شعبوية لم توفر زعيم «حزب العمال» جريمي كوربن، الذي وصفته إحدى الصحف بـ«دمية بوتين». ؤالخلافات بين بريطانيا وروسيا تتعدى حادثة تسميم الجاسوس سكريبال، إلى قضايا أخرى، مثل ضم روسيا للقرم وأزمة أوكرانيا وسوريا وإيران، ومزاعم تدخل روسيا في الانتخابات في كل من الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وألمانيا، فضلاً عمّا تعدّه لندن «مناوشات» بحرية روسية في المياه والأجواء البريطانية.
لكن رغم هذا التوتر الظاهر في العلاقات بين الجانبين، تبدو لندن حريصة على إبقاء العلاقات عند مستوى معين، وبالتأكيد عدم الرغبة إطلاقاً في قطعها. ويُعبّر قرار رئيسة الحكومة تيريزا ماي، بطرد ٢٣ دبلوماسياً روسياً «خلال أسبوع» عن هذه الرغبة، إذ رغم تهديداتها وتهديدات وزير خارجيتها بوريس جونسون، بـ«ردّ حازم»، أُمهِلَ المطرودون سبعة أيام للخروج، بدلاً من ٢٤ أو ٤٨ ساعة كما كان متوقعاً، ما عدّه المراقبون «رداً معتدلاً». الإجراءات ليست «حازمة جداً»، برغم الصخب الإعلامي الذي رافق التهديدات وارتفاع حدة لهجة المسؤولين البريطانيين عموماً ضد موسكو.
أفل عصر الإمبراطورية
لا تريد ماي تصعيداً كبيراً يستفز موسكو رغم ارتفاع نبرة خطابها، وتهديدها بفرض إجراءات إضافية على روسيا «إذا استمرت في استفزازنا». الأسباب عدة، أبرزها حاجة بريطانيا، التي تستعد للخروج من الاتحاد الأوروبي، إلى تعويض الميزات التي يُتوقَّع أن تفقدها بهذا الخروج، بمكاسب في أماكن أخرى: فتح آفاق جديدة للتبادل التجاري مع دول خارج الاتحاد الأوروبي، وتعزيز التعاون مع الدول التي تربطها بها علاقات اقتصادية.
جاء توقيت تسميم الجاسوس سكريبال في وقت بريطاني حرج جداً
السبب الرئيسي الثاني هو عدم قدرة بريطانيا وحدها على مجاراة روسيا في التصعيد وتحمّل التداعيات. ولهذا أسبابه الموضوعية أيضاً. أولاً، لم تعد هي «بريطانيا العظمى»؛ لقد أفل عصر الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. وثانياً، قناعة ماي بعدم استطاعتها التعويل كثيراً على الحلفاء الأوروبيين ولا الولايات المتحدة الأميركية. برز هذا الأمر في أسئلة ومداخلات بعض النواب البريطانيين في جلسة مجلس العموم (البرلمان) الأربعاء الماضي، بعد عرض ماي إجراءاتها ضد روسيا واتصالاتها مع «الحلفاء».
أحد النواب سأل ماي عن ماهية الدعم الذي قالت إنّ «الحلفاء» وعدوها به، عدا «خطابات التأييد»، فردت باختصار، كمن يهرب من التصريح، بأن «الحلفاء» كانوا ينتظرون تفاصيل الرد البريطاني أولاً.
الغاز والحلفاء
تعرف ماي تماماً عمق العلاقات الاقتصادية بين روسيا والدول الأوروبية، أو بالأحرى مدى اعتماد أوروبا، وخصوصاً بريطانيا، على الغاز الروسي. أكثر ما تخشاه رئيسة الحكومة البريطانية تأثير التصعيد مع روسيا على واردات الغاز الروسية. قبل نحو ثلاثة أسابيع، وخلال تعرض بريطانيا لموجة ثلجية عاتية، تسرّب خبر عن قرب نفاد مخزون الغاز الضروري للتدفئة، ما أثار السخرية من هذا الموقف المخزي لبريطانيا: إذا كان الأمر بهذا السوء حالياً، فكيف سيكون الحال إذاً بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي؟ أو إذا قررت موسكو الرد على بريطانيا بتقليص، أو وقف الغاز الذي تصدره إلى بريطانيا؟!
وكانت بريطانيا قد استقبلت، بخطوة لافتة، في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، أول ناقلة للغاز الطبيعي من مشروع «يامال» الروسي الخاضع للعقوبات الأميركية. وجاءت هذه الخطوة في أعقاب إغلاق أحد خطوط الأنابيب الرئيسية للغاز في بحر الشمال، الذي كان يزود المملكة المتحدة بنسبة ١٢ في المئة من إنتاج الغاز في بحر الشمال، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار إلى مستوى قياسي لم تصل إليه منذ 4 سنوات، وأثار المخاوف من حدوث نقص محتمل.
نتيجة التعقيدات الدولية من جهة، وتشابك المصالح من جهة أخرى، تدرك ماي جيداً أنها لا يمكنها الاعتماد كثيراً على «الحلفاء» في أي مواجهة مع روسيا. لا مجلس الأمن سيفيد بريطانيا، ولا حلف شمال الأطلسي، ولا الاتحاد الأوروبي بطبيعة الحال. الحليف الأميركي هو الوحيد الذي يمكن أن تُعوِّل عليه. لكن أخذاً في الاعتبار الظروف التي تمرّ بها الولايات المتحدة الأميركية حالياً، لا يبدو وضع الرئيس دونالد ترامب مريحاً، رغم استبداله وزيراً من الصقور، هو مايك بومبيو، بوزير خارجيته ريكس تلرسون «المعتدل». ولا يبدو أنّ ترامب نفسه بوارد التصعيد مع روسيا رغم العقوبات الأميركية عليها. وأبرز دليل، موقفه «الفاتر» من اتهامات أجهزة بلاده نفسها لروسيا بالتدخل في الانتخابات الأميركية، ونفيه الدائم أن تكون موسكو قد حاولت التأثير بنتيجة الانتخابات لمصلحته.
ومن المثير هذا التزامن بين الاتهام البريطاني لروسيا مع إعلان إدارة ترامب أول من أمس، فرض عقوبات على شخصيات وكيانات روسية. كأنّ ترامب يريد أن يُبلغ لندن بأن واشنطن قد أوفت بحصتها في الردّ على موسكو، علماً بأن العقوبات الأميركية الجديدة على موسكو كانت متوقعة، على خلفية اتهامها بالتدخل في الانتخابات الأميركية، لا بل إنّ الديموقراطيين اعتبروا أنّ هذه العقوبات «تأخرت ١٤ شهراً».
كان لافتاً أيضاً تذبذب الموقف الفرنسي، إذ سخر بنيامين غريفو، الناطق باسم الرئيس الفرنسي، من الإجراءات التي اتخذتها ماي، مشيراً إلى أنها «نوع من السياسات الفنتازية»، الأمر الذي أثار حفيظة وسائل الإعلام البريطانية. أما ألمانيا، فإنها تحاول أن تبقى على مواقفها المعتدلة نوعاً ما من روسيا عموماً، ولا يُتوقع أن تنجرّ إلى الاصطفاف في «جبهة غربية» ضد روسيا والتصعيد ضدها، رغم المحاولات البريطانية الأخيرة. في هذا الصدد، اكتفى رؤساء أميركا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا بإصدار بيان مشترك يُحمِّل روسيا مسؤولية تسميم الجاسوس الروسي سكريبال، ويؤكد التضامن مع بريطانيا في هذه القضية، في محاولة لإظهار موقف موحد ضد روسيا التي تستعد للرد على العقوبات البريطانية والأميركية.
إذا كانت بريطانيا لم تتوقع دعماً قوياً من حلفائها لمواجهة روسيا، وهي غير قادرة وحدها على هذه المواجهة في حال التصعيد، فما هي إذاً خلفيات إجراءات ماي التصعيدية ضد موسكو؟ هل تورطت فعلاً في حملة غربية تقودها واشنطن للضغط على موسكو في ملفات أخرى؟ أم أنّ هناك أسباباً أخرى؟
جاء توقيت تسميم الجاسوس سكريبال في وقت حرج جداً داخلياً. فضعف رئيسة الحكومة البريطانية بعدما خسر حزبها الانتخابات العام الماضي، وتخبطها في مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي، هددا موقعها كرئيسة للوزراء، في ظلّ تأهب قادة في حزبها، على رأسهم بوريس جونسون، لاستغلال أي فرصة والانقضاض على موقع «١٠ داونينغ ستريت».
وجدت رئيسة الحكومة البريطانية نفسها فجأة أمام أزمة لا يمكنها عدم الرد حيالها، إذ إنّها تتعلق أولاً بهيبة بريطانيا، وسمعة رئيسة الوزراء ثانياً. فمثلت هذه الحادثة فرصة لماي، كي تثبت قدرتها وتظهر قدراً من الحزم تُعوِّض فيه عن صورتها المهتزة لدى البريطانيين وتستعيد بعضاً من شعبية كانت قد خسرتها في السنتين الماضيتين.
أما إذا كانت ماي قد تورطت في حملة أميركية ضد روسيا، وهو احتمال ضعيف، فإنّها بلا شك ستدفع ثمن هذه المغامرة غير المحسوبة. إذ لم تنجح العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة على روسيا منذ سنوات في زحزحة موسكو عن مواقفها، بل استفادت موسكو في جانب منها في شد العصب الداخلي ضد محاولات «العزل» الدولي، فيما يبدي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الفترة الأخيرة عزماً على مواجهة الولايات المتحدة، يؤكدها استخدامه لهجة قوية واستعراضاً للقوة غير مسبوق.
خلاصة القول، إذا كان بإمكان بريطانيا (أو الغرب عموماً) افتعال مشكل وخلق أزمة للضغط على روسيا، إلا أنّها لا يمكنها التكهن بكيفية إغلاقها.
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2018/03/17