الشعبوية تهدد الأمن والسلم الدوليين
د. سعيد الشهابي
يمكن القول أن الظاهرة الشعبية أو «الشعبوية» التي يطلق الغربيون عليها «بوبيوليزم populism» أصبحت داء خطيرا يهدد النظام العالمي الذي تبلور بعد الحرب العالمية الثانية. هذه الظاهرة التي تجسدت بصعود دونالد ترامب إلى الرئاسة الأمريكية ودفعت بالتيارات اليمينية المتطرفة في الدول الأوروبية إلى الواجهة السياسية هي نفسها التي أدت قبل ذلك إلى ما عانت منه أمتنا العربية والإسلامية في السنوات الأخيرة من تصدع المجتمعات وفق خطوط التمايز الديني والمذهبي.
تتأسس هذه الظاهرة على إثارة المشاعر الجماهيرية باتجاه تغليب الذات على المصلحة الاجتماعية، وبذلك تتحول من شعور إنساني عادي بالخصوصية والتميز الطبيعي عن الآخرين إلى ظاهرة اجتماعية ترى في الآخر عدوا أو مناوئا أو منافسا على أقل تقدير.
على الصعيدين العربي والإسلامي كان هناك أمل لدى رواد النهضتين العربية والإسلامية بأن يتعمق الشعور بالهوية الخاصة من أجل خدمة المصلحة العامة. فعلى الصعيد العربي طرحت المسألة القومية بهدف التحول إلى هوية جامعة للشعوب العربية لتجمع أمرها من أجل مواجهة الاستعمار الغربي من جهة والتصدي للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين من جهة أخرى. وكذلك الأمر بالنسبة للهوية الإسلامية التي صاحبت تنامي الصحوة الإسلامية. وبموازاة ذلك تصاعدت ظاهرة «الوعي الأسود» في جنوب أفريقيا بهدف رص صف الجماهير على أرضية التصدي للنظام العنصري الجاثم على صدور تلك المنطقة. وتبلورت تلك الظاهرة أيضا لدى جيل السود الأمريكيين في الخمسينيات والستينيات لمواجهة العنصرية التي كانت تميز بين المواطنين على أساس اللون، باستضعاف السود وتهميشهم في الحياة العامة. هذه الظواهر تختلف عما شهدته دول أوروبية بصعود النازية المؤسسة على مقولة تفوق العرق الآري على من سواه، وكان اليهود من ضحايا تلك الظاهرة. وجميع هذه الظواهر تهدف لتحريك المشاعر العامة باتجاه أهداف سياسية واضحة. الفرق أن بعضها عادي وبعضها ينطوي على بعد عنصري. ونظرا للوعي العام الناجم عن معاناة الشعوب الغربية خلال النصف الأول من القرن الماضي والحربين العالميتين اللتين عانى الغربيون منهما، فقد مال الاتجاه العام منذ العام 1945 لرفض العنصرية وترويج ثقافة التحمل وتأصيل منظومة حقوق الإنسان، وصدرت بذلك كافة القوانين والمواثيق والعهود الدولية التي وضعها رواد العمل الإنساني المشترك ضمن غطاء الأمم المتحدة.
وإذا كانت ألمانيا النازية التجسيد العملي لواحدة من أبشع الظواهر العنصرية، وتوازى معها أنظمة عنصرية في جنوب أفريقيا وروديسيا (زيمبابوي) والولايات المتحدة، فأن من المنطقي الادعاء بأن الولايات المتحدة أطلقت ظاهرة العنصرية التي تتصاعد باضطراد منذ صعود الرئيس الحالي إلى منصبه. ويمكن الزعم بأن أية محاولة للتفرد بالقرارات والمواقف والانتماء تؤسس للظاهرة العنصرية مهما كانت تبريرات القائمين بذلك. وقد أدرك زعماء الدول الأوربية الجنوح الأمريكي نحو ما اسموه «يونيلاتيراليزم» Unilateralism أي الانكماش على الذات ورفض العمل المشترك مع الآخرين. فالعمل المشترك ينطوي على قناعة بالتساوي مع الآخر في الإنسانية وكذلك الحقوق والواجبات، بالإضافة للرغبة في الترويج لعالم متجانس يشترك أفراده في خيراته بقدر من المساواة، وبدون تمييز على أسس اللون أو العرق أو الثقافة. كما يقوم على احترام التعددية واعتبارها عامل إثراء للجنس البشري، وليس أساسا للتمايز والاستعلاء. ولتوضيح جوهر الفكرة يمكن استعراض عدد من الحقائق ذات الصلة:
الأولى: أن الحكومات التقليدية الأوروبية حتى وقت قريب كان تؤمن بمستلزمات العمل الدولي المشترك، فتدعم الأمم المتحدة راغبة، وتروج مقولات الديمقراطية وحقوق الإنسان كقواسم مشتركة بين البشر وحقوق طبيعية لهم، وترفض التطرف الذي تمثله المجموعات اليمينية المتطرفة. وكانت تدعو الولايات المتحدة للتخلي عن نزعة التفرد والتخلي عن مقولة «يونيلاتيراليزم»، وترى في ذلك تقويضا للعمل المشترك سواء على صعيد الأمم المتحدة أم المنظمات الدولية مثل منظمة التجارة العالمية والاتفاقات الدولية حول البيئة والمحكمة الجنائية الدولية ومجلس حقوق الإنسان، أم المنظومة الغربية وما يتفرع عنها من اتفاقات تجارية وعسكرية خصوصا حلف الناتو.
الثانية: أن الفرحة التي عمت الغرب بسقوط الاتحاد السوفياتي دفعته في البداية لترويج مقولات التعايش العالمي المشترك ضمن المنظومات المذكورة، وأن الجهود المستنزفة خلال الحرب الباردة يجب أن توجه لتشكيل عالم أفضل تسوده الديمقراطية وحقوق الإنسان وتحكمه أطر التعاون الدولي المشترك. مع ذلك كانت أوروبا تخشى من قيام نظام دولي مؤسس على القطب الواحد، فكانت تراقب التصرفات الأمريكية وسعت لمسايرة واشنطن لمنعها من التوجه نحو التفرد. وكانت من نتائج الجهود الأوروبية تراجع مجموعات التطرف اليمينية وتهميشها في صناديق الاقتراع، فلم تكن هناك خشية مباشرة من تهديد المنظومة الغربية التي كانت تتسم بشيء من الاعتدال بعد تجربة الحروب السابقة.
الثالثة: أن أمريكا، حتى قبل صعود ترامب، كانت لها نزعات مختلفة. وتعمقت تلك النزعات بعد حوادث 11 سبتمبر الإرهابية، فسرعان ما اتضح أنها تبتعد تدريجيا عن العمل المشترك، وتسعى لخلق عالم مؤسس على قطب واحد يتصرف كما يشاء. في البداية كان هناك الرفض الأمريكي لتوقيع بروتوكولات روما التي تنظم عمل المحكمة الجنائية الدولية. هذا الأمر أوحى للعالم أن أمريكا ترفض أن تساوى مع بقية الدول من حيث المسؤولية والالتزام بالقانون الدولي. وبدأت الضغوط على الأمم المتحدة تارة بخفض المساهمة المالية الأمريكية للمنظمة الدولية، وأخرى برفض توقيع الاتفاقات العديدة، وثالثة بالانسحاب من المعاهدات التي سبق لأمريكا الانتماء إليها. هذه النزعة تأكدت بعد صعود دونالد ترامب إلى الرئاسة الأمريكية. وخلال عام واحد سحب بلاده من منظمة اليونيسكو بدعوى أنها معادية لـ «إسرائيل»، في الأول من حزيران/يونيو 2017، أعلن الرئيس الأمريكي انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة باريس للمناخ التي وقعتها 195 دولة عام 2015، ونيتها السعي إلى التوصل إلى «اتفاق عالمي جديد» بشأن التغير المناخي. وفي 12 أكتوبر 2017 انسحبت من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) متهمة إياها بأنها «معادية لإسرائيل» على أن تبقى في المنظمة بصفة مراقب إلى أن يدخل انسحابها حيز التنفيذ نهاية عام 2018. وفي يناير 2018 أخرج ترامب واشنطن من «اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي» التي وقعتها 11 دولة عام 2015 من منطقة آسيا والمحيط الهادي باستثناء الصين.
الرابعة: أن صعود ترامب وفر دفعة قوية للمجموعات اليمينية في أوروبا وأصبحت الأحزاب التقليدية تخشى من ذلك كثيرا. فقد أصبح حزب «الحرية» شريكا في الائتلاف الحكومي النمساوي. وفي فرنسا قفزت حظوظ اليمين المتطرف ممثلا بـ «حزب الجبهة الوطنية» الذي تقوده جان ماري لوبان الذي فاز بعدد من المقاعد. وفي ألمانيا حقق حزب «البديل» 13 بالمائة من الأصوات في انتخابات العام الماضي.وصعد اليمين المتطرف في المجر وبولندا وايطاليا لتدخل أوروبا بذلك مرحلة تنذر بعد الاستقرار، وتشبه إلى حد كبير أوضاعها قبل الحرب العالمية الثانية. القادة الأوروبيون التقليديون يعلمون أن «الظاهرة الشعبوية» في بلدانهم تعمقت بفوز دونالد ترامب الذي لم يخف طرح أجندة عمل خطيرة ضد المهاجرين والمسلمين والعمل الدولي المشترك. وقد سبق له أن دعا لانفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي.
الخامسة: أن «الظاهرة الشعبوية» تقوم على أساس إثارة القضايا الخلافية وتحويلها إلى مانفستو سياسية، ومن ذلك رفض استقبال المهاجرين، ومعاداة الإسلام، وترويج روح الاستعلاء والتباين، واعتبار الآخر المختلف «عدوا». هذه الظاهرة وصلت هي الأخرى إلى العالمين العربي والإسلامي، ولكن بنسخة أخرى ذات منطلقات مذهبية أدت إلى حمامات من الدم ما تزال تسيل حتى الآن. وثمة إدراك للدور الإسرائيلي في ما يحصل، سواء بطرح أجندة العمل للرئيس الأمريكي أم التحالف مع حكومات عربية تماهت مع «الظاهرة الشعبوية» في نسختها العربية كأسلوب آخر من التصدي للظاهرة الثورية الساعية للتغيير السياسي وتحرير فلسطين والحد من الهيمنة الغربية. أنه انقلاب حقيقي على التراث السياسي الإنساني في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2018/07/30