الحكومة لا يُحكم لها أو عليها إلا... وفقاً للدستور
ناصر قنديل
– يريد بعض المعنيين بالشأن الحكومي تمنين اللبنانيين وتربيحهم جميل مجرد تشكيل الحكومة، لتسويقه كإنجاز بل كإعجاز يستحق التصفيق، ذلك أن عملية الإذلال التي عرفها اللبنانيون خلال تسعة شهور، جعلت تشكيل أي حكومة مطلباً، بعدما بلغ الجمود الاقتصادي والقلق من الأسوأ الآتي سبباً لتخفيض سقوف التطلعات والمطالب عن كل ما هو مشروع ومطلوب إلى ما هو ممكن مهما كان ضئيلا، كما هو حال الانتقال في ظروف الحروب من الطموحات الوطنية الكبيرة إلى الاكتفاء بالبقاء على قيد الحياة، وعندما يقرر هؤلاء المعنيون التحدث عن مسؤوليات الحكومة الجديدة ومهامها، يقدمون المهام التقليدية لأي حكومة عادية بصفتها تحديات على الحكومة مواجهتها والفوز بها، بعدما تكفل القتل التدريجي والمنهجي لمنطق حقوق المواطنة، بجعل إقرار الموازنة العامة حدثاً، وتأمين الكهرباء إنجازاً، ورفع النفايات من الشوارع معجزة، والتحسب لطوفان نهر الغدير أو أوتوستراد الضبية وجل الديب عبقرية فذة، ولا مانع من تقديمها كتحديات خطيرة وكبيرة تقال في الفوز بها قصائد المديح، حتى لو فاحت منها روائح الفساد وصاحبتها الصفقات. فقد صار الفساد الموصوف هو سرقة المال العام دون تنفيذ الالتزام والتعهد، أما إذا نفذ الالتزام ولو بشروط فاسدة فنياً ومالياً فذلك إنجاز.
– المعنيون بهذه الحكومة يكادون يكونون معنيون من قبل عن حكومات كثيرة قبلها، وفي أيامهم صار التغيير المنهجي للمعايير في كيفية الحكم على الحكومة أو عليها في عقول الناس، عبر هذا الموت التدريجي لحس المواطنة، بعمليات قتل منظم، استهدفت إبادة واستئصال حس الحياة عند المواطنين، وتحويل مجرى ما تبقى منه إلى مصارف المياه الطائفية الآسنة، فيصير معيار المواطن منطلقاً من عصبية طائفية وحزبية ومذهبية، وظيفتها حماية الفاسدين في طائفته، بتصوير الدولة ومؤسساتها وتوظيفاتها ومشاريعها ومالها العام، حصصاً للطوائف وبالتالي لزعامات الطوائف، ويؤدي استبدال عقل المواطنة بعقل القطيع، لتقبل المواطن حرمانه من أبسط الحقوق، تحت شعار أولوية ما يسمّيه له زعماؤه بحقوق الطائفة، وحقوق الطائفة نيل حصتها من التعيينات، ولو بلا كفاءات، وبفاسدين، ونيل نصيبها من التعهدات والالتزامات والصفقات، ولو لم تنفذ أو نفذت بطريقة سيئة أو صاحبتها السرقات والسمسرات، ويستحق الأمر الاستنفار والنزول إلى الشارع فقط عندما تتعرض هذه الحقوق المسماة حقوق الطائفة لتعرّض من أحد، ولو بخلفية غير طائفية تهدف للإصلاح ومكافحة الفساد.
– تصويب هذا التشوّه البنيوي يستدعي العودة إلى الأصول التي بدونها يصعب تحديد معايير للحكم لأي حكومة أو عليها. فالحكومة عموماً هي السلطة السياسية العليا في البلاد، ومهمتها الرئيسية احترام مواد الدستور في إدارة الشأن العام للبنانيين، باعتبار الدستور هو العقد الاجتماعي الذي ينظم حياة المواطنين وشؤونهم، ويحدد دور السلطات، ومهماتها، ويرسم سقوف التطور السياسي للنظام، التي تلتزمها الحكومات المتعاقبة، ولأن الحكومات كانت، باستثناء الحكومات الأولى لما بعد اتفاق الطائف، حكومات تصريف أعمال، باعتبارها لم تؤدّ شيئاً في السياسة، سوى إدارة الانقسام الوطني السياسي لتحويله انقساماً طائفياً، فإن السؤال الأول هو، والحكومة الجديدة هي حكومة العهد الأولى والأخيرة علمياً، طالما ستستمر حتى الانتخابات النيابية المقبلة قبيل نهاية عهد الرئيس ميشال عون بشهور ستكون شهوراً انتخابية رئاسية بامتياز، هل المطلوب التعامل مع الحكومة كحكومة تصريف أعمال أم كحكومة مسؤولة وفقاً لنصوص الدستور؟
– الحكومة المسؤولة وفقاً لنصوص الدستور، تبدأ جلستها الأولى بوضع الدستور بين يدي الوزراء، لتحديد خطوط بيانها الوزاري وفقاً للدستور، فتبدأ بتحديد المواد التي لم تطبق لمناقشة كيفية وضع آلية لتطبيقها، وتحديد المواد التي تتم مخالفتها لوضع قرارات وتعهدات بوقف مخالفتها، ولأن الحكومة أعلى سلطة سياسية، فعليها أن تجيب عن اسئلة من نوع: هل ستضع على جدول أعمالها التعاون مع المجلس النيابي الذي تمثل أغلب الكتل فيه لتشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية، التي يتحول اتفاق الطائف بدونها إلى إطار للفدرالية، خصوصاً مع اللامركزية وقانون انتخاب مريض طائفياً؟ وهل ستنظر في أمر المادة 22 من الدستور لانتخاب أول مجلس نيابي خارج القيد الطائفي، وإنشاء مجلس للشيوخ؟ وهل ستضع حداً للمخالفات المتمادية لنصوص الدستور في ما خصّ تطبيق التوزيع الطائفي المريض على الوظيفة العامة في كل الفئات الوظيفية وقد حصرها الدستور بالفئة الأولى؟ وهل ستضع العلاقة المميزة مع سورية على جدول أعمالها، وتفعل معاهدة التعاون والأخوة والتنسيق معها؟ وهل سترد الاعتبار لنص اتفاق الطائف بمواجهة العدوان والاحتلال بكل الوسائل المتاحة؟ وهل ستوقف عمليات الخصخصة التي تتم بعكس نصوص الدستور الذي يوجب استصدار قانون بمنح كل امتياز لاستثمار القطاع الخاص لثروة وطنية كالكهرباء والترددات في قطاع الاتصالات وصولاً للغاز والنفط لاحقاً؟
– الحكومة التي لا تجيب على هذه الأسئلة ترتضي أن تكون حكومة تصريف أعمال، وتصريف بائس للأعمال، لأنها حكومة تقوم على مخالفة الدستور، وطعنه والعبث به، وستكون حكومة تسويات الطوائف ومحاصصتها وفقاً لدستور آخر لدولة أخرى لم تعلن بعد، هي فدرالية الطوائف، لا حكومة تقوم وفقاً للدستور الذي بين أيدينا، وستكون مهما تحدّث أركانها والقيمون عليها عن مكافحة الفساد، حكومة تنظيم للفساد وتقاسم الحصص في ظلاله الوارفة، وحكومة تعميق لحرب أهلية باردة يتشقق النسيج الوطني في ظلالها، وتنتصب المتاريس تحت راياتها نحو فدرالية لا ينقصها إلا ظرف مناسب لتشهر وجودها. فالتحدي اليوم هو تحدي رد الاعتبار لثقافة المواطنة وحقوق المواطنة، ورديف المواطنة هو قيام الدولة القوية، والدولة القوية هي الأقوى من الطوائف والقوية عليها عند الحاجة، وهي الدولة التي يكون ولاء موظفيها لها لا لزعيم الطائفة، ولأننا نريد دولتنا قوية نريد أن نحتكم دائماً للدستور.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2019/02/04