لماذا يخسر أردوغان قلبه بخسارته إسطنبول؟
عبد الباري عطوان
هُناك نظريّة مُتداولة في أوساط النخب السياسيّة التركيّة تقول بأنّ من يفوز في الانتخابات البلديّة في أربع مدن كبرى هي إسطنبول وأنقرة وإزمير وأنطاليا يكتسح الانتخابات التشريعيّة، ومن ثم الرئاسيّة، ويضرِبون مثلًا بحزب العدالة والتنمية، ورئيسه رجب طيّب أردوغان الذي وصل إلى سُدّة الحُكم عبر بوّابة رئاسة مجلس إسطنبول البلديّ عام 1994.
بغض النّظر عن صحّة هذه النظريّة أو عدمها، فإنّ خسارة الرئيس أردوغان وحزبه الكُبرى في الانتخابات البلديّة التي جرت أمس، وفُقدانه السّيطرة على رئاسة المُدن الأربع المذكورة آنفًا، يُشكّل “صدمةً” كُبرى غير مُتوقّعة، ربّما تدفع به إلى إجراء مُراجعات جذريّة في سياساته الداخليّة والخارجيّة معًا.
الرئيس أردوغان لم يعرف طعم الهزيمة منذ أن تولّى رئاسة بلدية إسطنبول عام 1994، وحقّق إنجازات كُبرى للمدينة وأهلها، أبرزها جلب الاستثمارات وتخفيف أزمة المُرور، والطّفرة الإسكانيّة، والتوسّع العُمراني، وخلق الوظائف، ولهذا وضع كل ثُقله في الانتخابات البلديّة الأخيرة، واعتبرها معركة حياة أو موت، لكن نتائجها الكارثيّة كانت بمثابة استفتاء على حُكم حزب العدالة والتنمية، وسياساته الداخليّة والخارجيّة التي باتت موضِع انتقاد شرسة.
***
رئيس اللجنة العليا للانتخابات سعدي غوفن، أعلن أن مُرشّح المُعارضة لتولّي رئاسة بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو يتصدّر النتائج بنحو 28 ألف صوت بعد فرز مُعظم الأصوات الأمر الذي يعني تفوّقه على مُرشّح الحزب الحاكم ورئيس وزرائه السابق بن علي يلدريم الذي يُعتبر من أكثر السياسيين قُربًا من الرئيس أردوغان.
احفظوا هذا الاسم جيّدًا، فالسيد أكرم إمام أوغلو الذي حصد أربعة ملايين و16 ألف صوت ربّما يكون رئيس تركيا المُقبل، في ظِل تقدّم زعيم المُعارضة كمال كليتشدار في السّن (72 عامًا)، واحتمال التّنازل عن زعامته لمَن هو أصغر منه سِنًّا في الانتخابات التشريعيّة القادِمة عام 2023.
صحيح أن ائتلاف حزب العدالة والتنمية مع الحزب القومي حصل على 51 بالمِئة من الأصوات وأغلبيّة المقاعد في المجالس البلديّة حتى في المُدن الأربع الكبرى، ولكنّها هزيمة كُبرى للرئيس أردوغان شخصيًّا الذي لم يعرِف طعم الهزائم على مدى رُبع قرن تقريبًا، قضاها في السّلطة كرئيس بلديّة أو وكرئيس وزراء، أو رئيس للدولة، يعتبر إسطنبول بمثابة قلبه، لكونها محور طُموحاته بإحياء “العثمانيّة” في صُورتها الجديدة.
تراجع الوضع الاقتصاديّ، والانخفاض المُضطرد لسعر الليرة، والتوقّعات بحُدوث ركود اقتصاديّ في تركيا في أواخِر العام الحالي وأوائل العام المُقبل، وزيادة مُعدّلات التضخّم والبطالة، كلها عوامل لعِبت دورًا رئيسيًّا في انخفاض شعبيّة حزب العدالة والتنمية، مُضافًا إلى ذلك تراجع الاستقرار السياسيّ الذي يُعتبر خطوةً رئيسيّة للاستقرار الاقتصادي.
لا نُجادل مُطلقًا في أن الحرب المُدمّرة التي أعلنها الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب على الاقتصاد التركيّ ساهمت بدور أو بآخر في تقليص شعبيّة الرئيس أردوغان وحزبه، خاصّةً في أوساط الشّباب حيث ترتفع مُعدّلات البطالة، ولكن هُناك عوامل أُخرى داخليّة وخارجيّة لا يُمكن القفز فوقها، أبرزها سوء إدارة الرئيس أردوغان للحملات الانتخابيّة، والثّقة الزائدة بالنّفس، وتصويت الأكراد لصالح المُعارضة، كرد فعل على اعتقال قيادتهم الحزبيّة (حزب الشعوب الديمقراطي)، مُضافًا إلى ذلك الخِلافات مع دول الجوار الأُوروبي والشرق أوسطي، وليس هُنا المجال للإطناب والشّرح.
أحد المصادر الدبلوماسيّة عالية المُستوى في الحكومة التركيّة أبلغ “رأي اليوم” أنّ الرئيس أردوغان شخصيًّا يتحمّل مسؤوليّة تراجُع حزبه في الانتخابات البلديّة لأنّه فرض مُرشّحين مُعيّنين خِلافًا لرأي اللجنة العُليا لاختيار المُرشّحين التي أوصت بشخص غير بن علي يلدريم، ومن أبناء المدينة، لخوض الانتخابات في إسطنبول الذي لا يُعتبر من أبناء المدينة، ولكن الرئيس أردوغان أصر عليه، وتمسّك برأيه.
وأكّد هذا المصدر أن ما هو أخطر من هذه الخسارة حالة التذمّر المُتنامية داخل الحزب الحاكم، خاصّةً في أوساط القيادة التاريخيّة التي جرى إبعادها وتهميشها مثل عبد الله غول، رفيق أردوغان والرئيس السابق، وأحمد داوود أوغلو، رئيس الوزراء، وتزايُد الاتُهامات للرئيس أردوغان بالفرديّة والديكتاتوريّة، وعبّر المصدر نفسه عن اعتقاده بأنّ هذه “الصّدمة” التي جاءت في الوقت المُناسب ستُؤدّي إلى “صحوة” تقود إلى مُراجعات شاملة داخل الماكينة الحزبيّة ستتمخّض حتمًا عن تغييرات شِبه جذريّة في الهيكليّة والمناصب العُليا.
ربّما نعرف بعض انعكاسات هذه “الصّدمة” على السياسات الداخليّة للرئيس أردوغان، ولكنّنا لا نعرف انعكاساتها على سياسته الخارجيّة، فهل ستُؤدي إلى عودته إلى الحُضن الأمريكيّ مُجدّدًا أم إلى التمسّك بالحليف الروسيّ الجديد والاتّفاقات الاستراتيجيّة التي وقّعها معه وأبرزها شِراء صفقة صواريخ “إس 400” وربّما طائرات “سو 57” المُتطوّرة كبديلٍ للطائرات الأمريكيّة “إف 35″؟
سُؤال آخر لا يُمكن تجاهله يتعلّق بخطوات الرئيس أردوغان المُقبلة في الملف السوري.. فهل سيفي بتعهّداته للرئيس فلاديمير بوتين ويخوض معركة إدلب مثلما تعهّد في قمّة سوتشي في إيلول (سبتمبر) الماضي؟ وهل سيقبل بإحياء “اتّفاق اضنة” مع سورية الذي اقترحه الرئيس بوتين كضمان لأمن البلدين في اجتماع سوتشي الثنائي الأخير قبل شهرين، والجُلوس مع الرئيس السوري بشار الأسد على مائدة التّفاوض للاتّفاق على بعض التّعديلات المُتعلُقة بمساحة التوغّلات الحُدوديّة المُتبادلة لمُطاردة “الإرهابيين” المُعارضين لنظاميّ البَلدين؟
نُلِح في تساؤلاتنا هذه في الملف السوري لأنّ المُعارضة التركيّة التي بدأت شعبيّتها في تصاعُد، تُعارض سياسة الرئيس أردوغان في سورية كُلِّيًّا، وتُؤيّد التقارب وعودة العلاقات مع دمشق، ووقف الحرب، وسحب القوّات التركيّة بأسرعِ وقتٍ مُمكنٍ.
***
الرئيس أردوغان قال إنّه سيلتقي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد الانتخابات البلديّة لمُناقشة الأزَمَة السوريّة وكيفيّة إيجاد الحُلول والمخارج لها، دون أن يُحدّد أيّ موعد، فهل سيكون مُستعِدًّا لتقديم تنازلات في هذا الملف كان يرفُض تقديمها في السّابق؟
نُرجّح أن يتراجع الرئيس أردوغان عن الكثير من المواقف السابقة في الملف السوري، خاصّةً بعد أن أصبحت قضيّة 3.5 مليون لاجِئ سوري قضيّةً مُهِمّةً في الحملات الانتخابيّة الأخيرة، يستغلّها خُصومه كورقة ضغط عليه، حتى أنّ السيد بن علي يلدريم هدّد بترحيل هؤلاء وقال في مُقابلةٍ تلفزيونيّةٍ “إنّ اللاجئين السوريين يُسبّبون المشاكل الأمنيّة في مدينة إسطنبول” وقالت مُرشّحة يمينيّة “لن أُسلّم الفاتح للسوريين” في إشارةٍ إلى أحد المناطق التاريخيّة في المدينة.
معلوماتٌ مُؤكّدةٌ اطّلعت عليها “رأي اليوم” تُؤكّد أنّ السّفارات التركيّة في عواصم شرق أوسطيّة “تلقّت تعليمات بتخفيف اللّهجة العدائيّة تُجاه النظام السوري وتُطالب بإظهار حُسن النّوايا تُجاهه، وعدم الثّقة بالأمريكان”.
ما زِلنا نعتقد أن زيارة الرئيس أردوغان إلى دِمشق باتت وشيكةً.. يرونها بعيدةً.. ونراها قريبةً.. ولا بُد من دِمشق وإن طال السّفر.. والأيّام بيننا.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2019/04/02