تحديد الأدوار السياسيّة العلنيّة للجيوش العربيّة.. لماذا؟
د. وفيق إبراهيم
الجيوش العربية «تعود مجدّداً» لإدارة السياسة وذلك بعد أكثر من نصف قرن من التمويه بواجهات قيادية مدنية من أصول عسكرية. فرجعت قرقعة السلاح وألبسة الكاكي والبلاغات رقم «1» المتواصلة.
لماذا هذه العودة إلى العلنيّة ومن دون وسيط؟
للتذكير فقط فإنّ معظم الجيوش في المنطقة العربية قلّصت في المرحلة الماضية من أدوارها السياسية المباشرة، لكنها احتفظت بدور الداعم للأنظمة والمشرفة على تحوّل بعض جنرالاتها، قيادات مدنية ببدلات وربطات عنق من ماركات فرنسية معطرة.
لذلك فإنّ سيطرة الجيوش في أربعة بلدان عربية على السلطات السياسية فيها مثير للريبة، خصوصاً أنّ مساحاتها تزيد عن ستة ملايين كيلومتر مربع وسكانها نحو مئتين مليون نسمة مع مواقع استراتيجية هامة.
اللافت أنّ هذه العودة تتقاطع مع ثلاثة أحداث مستجدة: اندحار الإرهاب القاعدي الداعشي ذي الأصول الوهابية، ثانياً تراجع النفوذ الأميركي في سورية والعراق، وثالثاً تشكل حراك شعبي كبير وضاغط، نجح بإسقاط رئاسة بوتفليقة في الجزائر والبشير في السودان، دافعاً ليبيا نحو حرب بين بقايا جيشها بقيادة السراج. والمثير أنّ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي وصل إلى السلطة بانقلاب نفّذه الجيش المصري في 3 أيام التقى مؤخراً بالرئيس الأميركي دونالد ترامب، وعاد ليعدّل الدستور بما يسمح للرئيس السيسي بالبقاء في ولايات رئاسية متعددة لغاية 2030 كمدني يحكم بواسطة الجيش.
للمزيد من التوضيح، فإنّ انتفاضات شعبية جزائرية بدأت قبل أشهر عدة احتجاجاً على التدهور الاقتصادي المريع الذي أصاب البلاد بحكم وهميّ من رئيس مُصاب بجلطات دماغية منذ 2013 أفقدته الحركة والإدراك. مشكلاً واجهة لحكم من رجال الأعمال وقادة الجيش، فتحرّك الجيش عندما شعر أنّ الحراك كبير وثابت وذاهب نحو إسقاط النظام. وبحركة احتوائية انقلب الجيش على بوتفليقة مسرحيّاً معلناً تسلم السلطة انتقالياً لمدة عامين وذلك لإعادة «بناء المؤسسات الدستورية والاقتصادية وتسليمها للمدنيين»، كما زعم.
لكن الوضع الآن يدفع نحو صدام بين قيادة جيش متمسكة بالسلطة وبين حراك شعبي يرفض دور الجيش في السياسة، ما يُنذر بصدامات مرتقبة.
هذا ما حدث أيضاً في السودان التي تمكّن حراكها من إقصاء الرئيس عمر البشير، لكن قيادة الجيش سارعت بحركة مسرحية احتوائية إلى اعتقال البشير وتسلّم السلطة… وهي الآن في نزاع مع حراك شعبي لم يترك الميادين مُصرّاً على حقه في إدارة السلطة السياسية.
أما في ليبيا، فالمعارك مستمرّة وسط «بازار» سياسي دولي تتنافس فيه قوى كبرى وأوروبية وإقليمية وعربية.
فمما تتكوّن هذه الجيوش؟
تتألف الجيوش العربية من طابقين: القيادة في صفوف الضباط وهم أبناء طبقات وسطى تمكّنوا بنظام الترفيع العسكري من إدراك مواقع قيادية، جرى استخدامها كثيراً في التفاعلات السياسية، حتى أصبحت تشارك كثيراً في إنتاج قراراتها.
أما الأنفار منهم فهم أبناء الأرياف الذين يشكلون جسماً وطنياً فعلياً ويمثلون كلّ التعدّدية العرقية والطائفية والقومية الموجودة في بلدانها.. هذه الشرائح هي الوحيدة التي تعبّر عن سمات أوطانها بشكل كامل، لكنها تصبح رهينة القيادة العليا المسيّسة أو التي تعمل لخدمة الطبقات السياسية ورجال الأعمال.
أما لجهة الحراكات الشعبية فإنها هامة جداً، إنما في الجزء الأول من انتفاضتها.. والتي تنبثق من أسباب اقتصادية تتقاطع مع دوافع سياسية. لكن المشكلة في أبناء هذه الحراكات أنّها تندمج في ما بينها مؤقتاً، لأنها تعود بعد انتصارها ومراوحتها إلى انقساماتها الأساسية من العرقية والطائفية والفئوية.
أما لماذا تفعل ذلك فلأنّ حركة الاندماج الوطني التاريخية الضرورية لم تحصل بين أبناء المكوّنات المتناقضة لإعادة صهرهم وبناء مواطن قابل لأن يتخلى عن طوائفه وعرقه لمصلحة وطنه.
للتنويه، فإنّ الدول المدنية التاريخية قامت فور انتصار حركاتها الشعبية التاريخية بدمج داخلي على أسس ثلاثة، العدالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أيّ المساواة في الحقوق السياسية وفتح المناصب لكلّ الناس، وتوزيع المال العام على المكوّنات الاجتماعية، بعدل ومن دون تحيّز لقبيلة أو عرق أو دين، أما اجتماعياً فللمواطن الحق في الانتماء إلى الدين الذي يريده إنما من دون أن يستعمله في السياسة.. حتى أنّ الزواج هو إلزامي فقط في «البلديّة».
لقد استلزم تطبيق هذه العدالات قرناً ونصف قرن حتى لم يعُد الفرنسي يعرف مَن هو الكاثوليكي ومَن هو الأرثوذكسي. ولم يعد المواطن الأميركي يعرف مَن هو الكاثوليكي أو الإنجيلي، ومَن هو من ذوي الأصول الفرنسية او الانجلوساكسونية أو من نتاج سلالات بيضاء روسية ويونانية أو أخرى.
وهذا احتاج إلى أقلّ من قرن حتى أدركت أوروبا وأميركا وأوستراليا مرحلة الدمج لعصبيات مختلفة جرى توحيدها بالسياسة والاقتصاد والاجتماع.
الخوف إذاً موجود في العلاقات التبعية بين قيادات الجيوش والسياسات الخارجية السعودية ـ الإمارات ـ الأميركيون ـ الفرنسيون ـ البريطانيون… بالإضافة إلى ارتباطات قياداتها برجال الأعمال، وكما أنّ توقيت تحركها يكشف أنها محاولة لمنع تأسيس دول مدنية أو تأمين اندماج يعزز من قوة الأوطان.
فهل تمنع الجيوش إعادة بناء بلدانها؟ إنّ توقيت عودتها مشبوه، خصوصاً في حركة مواكبته لاندحار الإرهاب وتقلص الهيمنة الأميركية، فهل بإمكان الجيوش التعويض على المشاريع الأميركية الخاسرة؟
يبدو أنّ الحشود تتقدّم نحو استكمال أدوارها، إنما بعد اضطرابات مرتقبة قد يكون بمقدورها أن تفرض على الجيوش التراجع التدريجي والعودة إلى الثكنات وإنهاء محاولاتها للسيطرة على الدور السياسي، لذلك فإنّ المنطقة العربية تسرع نحو اضطرابات من نوع جديد، لكنها لن تكون أكثر سوءاً من الإرهاب الذي ضرب المنطقة في العقد الأخير.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2019/05/09