متغيّرات الميدان السوري والسيناريوات المحتملة
العميد د. أمين محمد حطيط
شهدت الأسابيع الثلاثة الماضية أحداثاً هامة في الميدان السوري بشكل عام وفي الشمال الغربي بشكل خاص، ترافقت مع تكثيف للتدخل العدواني «الإسرائيلي» جاء نتيجة المتغيّرات المختلفة التي نتجت، وهي متغيّرات لم يكن معسكر العدوان على سورية ينتظر شيئاً منها.
ونستطيع القول بأنّ ما سجل على الأرض فاجأ العدو بفروعه وصنوفه وأدواته منفذين ومشغلين وقيادة، ما دفعهم إلى مراجعة ما وضعوه من خطط وما اعتمدوه من مناورات إشغال وإلهاء واستنزاف اعتمدت خدمة لاستراتيجية أميركا بإطالة أمد الصراع ولتمكين تركيا من السير الحثيث نحو تنفيذ مشروعها الخاص في سورية والذي باتت عناوينه واضحة وتقوم على أمرين أساسيّين: قضم أرض سورية جديدة لإلحاقها بالإسكندرون كما يحصل في عفرين وامتلاك السيطرة والنفوذ على جزء من الأرض والشعب السوري للإمساك بأوراق تمكن تركيا من التأثير في القرار السوري المركزي.
لكن سورية التي وعت جيداً أخطار تلك الخطط والمناورات التركية الأميركية الإرهابية، ردّت على استفزازات الإرهابيين واعتداءاتهم بعملية عسكرية سريعة ومحدودة أدّت الى استعادة كفرنبودة ومنطقتها مع توسع مدروس شرقاً وغرباً ما مكّنها وبمهل قصيرة وكلفة معقولة من تحقيق 3 أهداف رئيسية عملانية واستراتيجية فاجأت بها العدوان وقيادته وأدّت إلى:
1 ـ تحرير قطاع واسع من الأرض واقع بين حماة وإدلب ما وضع الجيش السوري على مشارف سهل الغاب ومكّنه من تحضير المسرح والبيئة العملانية للانطلاق مستقبلاً إلى تنفيذ عملية تحرير إدلب ومنطقتها كلها.
2 ـ توجيه ضربة قاسمة لخطة الإرهابيين ومشغليهم والمتمثلة بإدارة حرب استنزاف خطط لها من أجل أن ترهق الجيش السوري وتقود إلى تآكل قدرته المادية والمعنوية وتشغله عن التركي الذي يتجه إلى تنفيذ مشروعه الخاص بشكل متدرّج وآمن.
3 ـ توجيه ضربات موجعة للإرهابيين في قواعدهم ومراكزهم وقواعدهم النارية ما أدّى إلى نوع من التضعضع في صفوفهم وخطوطهم الأمامية وتدني في معنوياتهم، حمل البعض منهم على مغادرة الميدان وفتح كوة في الحصار المضروب على المدنيين لمنعهم من الخروج من المنطقة.
هذه النتائج الباهرة دفعت بالتركي إلى العودة مجدّداً إلى روسيا عارضاً تنفيذ اتفاق سوتشي بعد التيويم والمراجعة التي فرضتها التطورات، تنفيذ يكون مسبوقاً كما يتردّد بنوع من تهدئة وتبريد الميدان، تهدئة وتبريد يروّج التركي لهما علي أساس أنها هدنة بين الدولة السورية والجماعات الإرهابية برعاية تركية روسية مشتركة. كما أنه يسرّب انّ هناك احتمالاً لاستقدام قوات أجنبية إضافية ونشرها في مناطق خفض التصعيد إلى جانب القوات التركية بما يوحي بأنّ مسالة تحرير إدلب وإعادتها إلى سورية باتت بعيدة جداً.
ويبدو أنّ التركي في ادّعاءاته تلك يريد أن يتجاوز إنجازات الجيش العربي السوري، وأن يحتوي مفاعيلها بما يخدم مشروعه وهنا ينبغي الحذر والتنبّه من المحاولة التركية تلك أو التفسير التركي للمسعى الروسي، فروسيا وافقت على تفعيل اتفاقات استانة وخاصة منها منظومة خفض التصعيد، ومنحت تركيا فرصة أخرى للتنفيذ، وسكتت سورية على هذا الامر رغم انعدام ثقتها بتركيا كلياً، سكوت أملته رغبة سورية في الوصول إلى هدف التحرير دون أن تلزم بحرب وخسائر، لكن تركيا التي اعتادت مجانبة الحقيقة في سلوكها والانقلاب على الاتفاقات أرادت من ترويج فكرة الهدنة ان تلحق الأذى المعنوي والمادي بالحكومة السورية وتضعها على قدم المساواة مع الجماعات الإرهابية وتجعل نفسها حكماً بينهما وهو أمر يجافي الحقيقة ولا يتناسق مطلقاً مع السياسة السورية المعلنة والمنفذة في كلّ الأطر والوجوه.
أما على المقلب الآخر ومع الانتصارات التي تحققت في الشمال الغربي السوري وغيّرت من طبيعة المشهد الميداني كما أشرنا، مع هذه المتغيّرات استأنفت «إسرائيل» تدخلها ونفذت اعتداءات على منطقة دمشق وحمص، وكان واضحاً انّ «إسرائيل» شاءت من اعتداءاتها هذه تحقيق 4 أهداف:
ـ الأول تحقيق حاجة انتخابية شخصية لنتنياهو ليثبت أنه الرجل القوي الممسك بالأمور الدفاعية وانه يتابع ما يجري في الشمال لحظة بلحظة ولأجل ذلك ادّعى، وهي من المرات النادرة التي يخرج فيها رئيس حكومة العدو، ويدّعي أنه هو شخصياً أعطى الأمر بالغارات.
ـ الثاني إثبات استمرار وجود «إسرائيل» وفعاليتها في الميدان السوري وكسر الصورة التي رسمت بعد تحرير الجنوب السوري والتي مضمونها أنّ اليد الإسرائيلية بترت ومنعت من التدخل في الميدان السوري.
ـ الثالث تحويل اهتمام الجيش العربي السوري وإشغاله عن معركة إدلب ودفعه إلى تخصيص جزء من قواه لمواجهة العدوان الإسرائيلي في الجنوب.
ـ الرابع رفع معنويات الإرهابيين المتهالكة عبر توجيه رسالة لهم بأنّ «إسرائيل» معهم وأنها لن تتخلى عنهم ولن تغادر الميدان وعليهم ان يصمدوا في مواجهة الجيش العربي السوري.
ـ ويمكن أيضاً إضافة هدف خامس هنا أيضاً يتصل برغبة «إسرائيل» في جسّ النبض حول ما إذا كانت منظومة «أس 300» التي نشرت حول دمشق قد فعّلت وعما إذا كان هناك قرار باستعمالها حتى الآن.
وبالمجمل نرى تكاملاً بين الدور التركي الإرهابي في الشمال الغربي ودور العدوان الإسرائيلي انطلاقاً من الجنوب الغربي، والإشراف الأميركي العام على الدورين، تكامل يهدف منه أصحابه الى منع تحرير إدلب وإدارة حرب استنزاف حولها، وتجويف اتفاقات استانة وسوتشي من محتواها، ما يضع الروسي والإيراني في حال إحراج في التعامل مع التركي. فكيف ستتصرف سورية على ضوء هذا المشهد؟
نعتقد بأنّ سورية اعتمدت سياسة لتحرير أرضها وأرستها على مبادئ وعناصر ثلاثة أولها مبدأ التحرير الكامل للأرض مبدأ لا رجعة عنه، ثانيها اعتماد المرونة والليونة في المناورة والتنفيذ، وثالثها الحرص ما أمكن على أرواح المدنيين والعسكريين على السواء، ولذلك فسورية لن تفوّت فرصة تخدم سياستها تلك إلا وتستغلها، ولأجل ذلك فإنها ستواجه أو ستكون أمام احتمال مواجهة السناريوات الثلاثة التالية:
الأول: نجاح التهدئة وتبريد الميدان في الشمال الغربي وإقدام تركيا على تنفيذ ما التزمت في سوتشي واستانة وهنا تكون عودة إلى المسار الذي اعتمد في استانة وهو التحرير على المراحل مع الضغط العسكري دون اللجوء إلى المواجهة العميقة. وقد تدّعي تركيا أنّ الهدنة التي طلبتها كانت في محلها ومكّنتها من تنفيذ موجباتها. هو السناريو الأضعف والأقلّ احتمالاً .
الثاني: فشل ما تسمّيه تركيا هدنة، وعودة الإرهابيين بدعم من مشغليهم في معسكر العدوان إلى حرب الاستنزاف والقفز فوق خسائرهم التي نزلت بهم في الشهر الماضي، مع محاولات التوسع في المنطقة، واستفادة التركي من الوضع للتسريع في تنفيذ مشروعه الخاص.
الثالث: مبادرة الجيش العربي السوري على ضوء فشل التهدئة ونكول تركيا وتراجعها عن تعهّداتها، مبادرته إلى إطلاق عملية عسكرية على مراحل متتالية من أجل تحرير إدلب وفقاً للسياسة المعتمدة لديها كما ذكرنا أعلاه ومن الأرجح أن تشهد الأسابيع المقبلة تنفيذاً لهذا السيناريو الذي نراه الأرجح والأكثر احتمالاً.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2019/06/04