عرس بلا عريس… الفلسطينيون ألقوا عصاهم فإذا هي تلقف ما يأفكون
د. شهاب المكاحله
انتهت ورشة المنامة تحت عنوان “السلام من أجل الرخاء” التي كان يُعوَل عليها أن تكون نواة لصياغة واقع اقتصادي وسياسي جديد في المنطقة للتخلص من عقدة الصراع العربي الإسرائيلي في ظل التحديات الراهنة دون أثر يذكر سوى أنها طبعت في أذهان بعض رجال الأعمال المُسيسين رقماً مُهماً للحجر على حساب البشر ومبلغ ٥٠ مليار دولار لا يمكنها أن تشكل جسراً للسلام يوماً ما بعد أكثر من ٧٠ عاماً على الصراع العربي الإسرائيلي. فقد كان عرس المنامة بلا عريس وسط تسريبات عن بدء التحضير لإعداد قيادة فلسطينية تتولى زمام الأمور وتسهل الانتقال إلى الفضاء الاقتصادي بدل الحل السياسي الجذري للصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
في تلك الورشة، أكد جاريد كوشنر، مستشار الرئيس الأميركي، على أربعة مبادئ وفق الخطة وهي الحرية وتشمل حرية الفرص والدين والعبادة بغض النظر عن المعتقدات، والاحترام؛ والكرامة للجميع من اجل الاستفادة من الفرص المتاحة لتحسين حياتهم من دون السماح لنزاعات الأجداد باختطاف مستقبل أطفالهم؛ والأمن والاستقرار.
إن وضع الاقتصاد أولاً قبل العملية السياسية ليس أكثر من خطأ تكتيكي، بل هو خطأ آخر في سلسلة طويلة من المحاولات الفاشلة للتقدم نحو حل الدولتين الدائم. إن تركيز إدارة الرئيس دونالد ترامب على الاقتصاد هو خطأ استراتيجي يمكن أن يعرقل المفاوضات قبل أن تبدأ. فلو درس ترامب وفريقه التاريخ، فسيعرفون أن وضع الاقتصاد أولاً قبل القضايا السياسية الأساسية هو صفعة في وجه الفلسطينيين لا فرصة القرن. بالطبع، يريد الفلسطينيون تحسين نوعية حياتهم. وبالطبع يريدون بناء اقتصاد متنامٍ. لكن هذه أهدافاً ثانوية، يمكن تحقيقها بعد حسم مسألة تقرير المصير. إن الصفقة بحد ذاتها محاولة لشراء الذمم. وهذا نهج لا أخلاقي ولا عملي.
الحقيقة هي أن العامل الاقتصادي لم يكن كافياً لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني عبر عقود. فقد ركزت اتفاقية باريس، التي أعقبت اتفاق أوسلو – وهي مجموعة من الاتفاقات بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية الموقعة في التسعينيات والتي لم يتم تنفيذها مطلقاً، على البعد الاقتصادي، ولم تنقذ تلك الاتفاقيات تدهور الوضع الأمني الذي أعقب تلك الاتفاقيات. في الانتفاضة الثانية، ثار الفلسطينيون لأربع سنوات ضد الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية. ولم تندلع الانتفاضتان الأولى والثانية لأسباب اقتصادية. لقد اندلعت تلك المظاهرات لأن الطريق ما عاد واضحاً ولأن الفلسطينيين شعروا أن الفوائد الاقتصادية المقدمة لن تؤدي إلى نهاية الاحتلال. لقد تلاشت الآمال الكبيرة لبناء الثقة في غياب خطة سياسية لإنهاء الصراع. وقد غذى هذا الفراغ اليأس وخيبة الأمل، مما أدى إلى انتفاضة كبيرة قد تؤدي إلى انتفاضة أخرى قريباً.
هذا هو الخطر الحقيقي الذي نواجهه مرة أخرى. فمن خلال وضع الاقتصاد أولاً مع تجاهل الهدف النهائي، تكرر الإدارة الأميركية نفس الخطأ اليوم: استئناف المحادثات دون تحديد الهدف النهائي. بالنسبة للفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء، يجب أن يكون الهدف هو إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل داخل حدود عام 1967، مع مبادلة الأراضي وفق ما يلزم. فما لم يعلن الطرفان ومن ورائهما الدول الكبرى تلك الأهداف بوضوح منذ البداية، فإن فجوة التوقعات ستولد عدم ثقة والعودة إلى المربع الأول. لذلك فالجلوس من أجل الجلوس والمصافحة والتقاط الصور سيكون عديم الجدوى ما سيؤدي إلى مزيد من خيبة الأمل – وتصاعد العنف.
لذلك فنحن بجاجة ماسة لتعريف الهدف من أية محادثات بحيث يتم الإعلان بشكل علني للعموم وليس للحكومات وليس للسجلات التي لا يطلع عليها الشعب والتي في الغالب تخفيها الحكومات العربية عن شعوبها. فالهدف من أي لقاء لا بد من أن يكون من أجل إنهاء النزاع وإقامة دولة فلسطينية، وإلا فإننا امام مزيد من الانتفاضات والثورات والحروب التي قد تطال دولاً لم تكن يوماً عرضة للثورات بسبب القضية الفلسطينية.
لن تكون هناك دولة يهودية ديمقراطية دون حل القضية الفلسطينية. فهناك عدد قليل من الأثرياء العرب من هم على استعداد لاستثمار رأس المال السياسي لمعالجة وحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لكن هذا ليس دعماً للفلسطينيين في قضيتهم بل هو محض صفقات تجارية واستثمارية تدر عليهم الأرباح.
منذ مدة قال السير جون جنكينز، المدير السابق للشرق الأوسط في وزارة الخارجية البريطانية، إن السخط الفلسطيني العام ساهم في فقدان الثقة في أي طرح للسلام. وأضاف أن الهيكل السياسي لفلسطين قد انهار وأنه لم يعد هناك “هوية وطنية فلسطينية”، وهو بذلك يلمح إلى ضرورة إبقاء الوضع على ما هو عليه لأن الزمن كفيل بتمييع القضية.
وقال إن هذا الفراغ السياسي مرتبط بالـ “الوعد بالتنمية الاقتصادية” أي أن الوعد غر ملزم وما هو إلا لكسب الوقت. وأضاف قائلاً: “لا يمكنني رؤيتهم ببساطة يوقعون أي الفلسطينيين على اتفاق ما لم يكن هناك نوع من الأفق السياسي.”
إذا استمر الإسرائيليون في هذا المسار الحالي للعمل، فإنهم يجعلون حل الدولة الواحدة بديلاً لا مفر منه، حيث يتحول الصراع الفلسطيني من أجل تقرير المصير الوطني في دولة إلى صراع الحقوق المدنية في دولة واحدة إلى جانب الإسرائيليين.
وبالعودة إلى اللقاء الذي عقد في المنامة أثارت تصريحات كوشنر موجة انتقادات عن خطته للسلام في الشرق الأوسط لأنها جاءت في مصلحة إسرائيل كونها تعنى تأجيل الجانب السياسي إلى ما بعد نوفمبر القادم، فلا يُسمح بالحديث عن وضع القدس والمقدسات إلى ذلك الحين، والبدء بطرح البعد الاقتصادي للخطة من حيث الفرص المتاحة والمشاريع التي سيتم تنفيذها.
إن ما حصل في ورشة السلام أنها لم تأتِ على ذكر حلّ الدولتين الذي طرح منذ فترة طويلة. ويكفي هنا التذكير بما قاله كوشنر في مقابلة مع معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى الشهر الماضي حين قال: “إذا قلت دولتين، فهذا يعني شيئاً للإسرائيليين وشيئاً آخر مختلفاً عنه للفلسطينيين. لهذا السبب قلنا إنّ علينا ألا نأتي على ذكر ذلك. فلنقل فقط إنّنا سنعمل على تفاصيل ما يعنيه ذلك”.
اليمين الإسرائيلي يحاول التكيف بعد 27 عاماً على اتفاق أوسلو، مع الواقع القائم، في ظل انقسام فلسطيني مع جهود إسرائيلية حثيثة لفرض الحكم الذاتي، من خلال توسيع المستوطنات، والضم التدريجي للضفة الغربية، ما أوجد حالة من الإبادة العرقية، وما كان حلماً لدى مناحيم بيغن، حوله بنيامين نتنياهو إلى واقع ميداني.
باختصار نحن أمام صفقة تعطي الأهمية للجانب الاقتصادي على حساب الحل الجذري للصراع، ولهذا سنشهد في الأشهر القادمة المزيد من المظاهرات في فلسطين وغزة مع ظهور طرح جديد لقيادة فلسطينية جديدة تكون بديلاً للموجود حالياَ تسهم في المزيد من تمييع القضية وإضاعة الوقت وإلهاء الناس بالهم الاقتصادي والفرص التي تتيحها مشاريع “الفرصة”.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2019/06/29