الندّية في قلب المواجهة الإيرانية ــ البريطانية
وليد شرارة
لم يرهب طهران التحشيد العسكري الأميركي ولا خطاب ترامب التهويلي (أ ف ب )
لا تزال الندّية في قلب المواجهات الكبرى بين قوى الاستعمار الجديد والقديم، وبلدان الجنوب الكبير في العالم المعاصر. مطلب الندّية، وما يعنيه من احترام لاستقلال جميع دول العالم وسيادتها، والإقلاع عن سياسات الهيمنة والحرب والنهب البدائي للثروات والمقّدرات، كان وسيبقى، إلى أن تتغير موازين القوى الدولية بشكل حاسم، المطلب المركزي الذي يختصر مجمل الأهداف الأخرى للأنظمة والقوى الوطنية في ما اصطُلح على تسميته في زمن آخر «المستعمرات وأشباه المستعمرات». هي مطلب روسيا العائدة إلى الساحة الدولية بعد أكثر من عقدين من «الاحتواء» والتهميش، وكذلك الصين التي تتعرض لاستراتيجية احتواء شبيهة، بعد ثلاثة عقود من «الصعود السلمي» الناجم عن دينامية اقتصادية استثنائية من دون غزو واستعمار أحد. هي أيضاً مطلب إيران التي وقّعت مع مجموعة «5+1» على اتفاق نووي مجحف وافقت فيه على الخضوع للرقابة الدولية مقابل تطبيع علاقاتها مع القوى الغربية، أي خروجها من حالة شبه الحصار الاقتصادي الذي كان مفروضاً عليها، وسارعت الولايات المتحدة إلى الانسحاب منه بعد وصول دونالد ترامب إلى السلطة، مع التطورات المعروفة التالية لهذا الانسحاب. ويأتي احتجاز بريطانيا، الملتحقة بالولايات المتحدة، لناقلة نفط إيرانية، ورد إيران، عملاً بمبدأ المعاملة بالمثل، باحتجاز ناقلة بريطانية، ومن ثم عرض تبادل الناقلتين المحتجزتين الذي قوبل برفض بريطاني، وخطوة تصعيدية إضافية تمثلت بإرسال مدمرة بحرية إلى مياه الخليج بذريعة حماية «حرية الملاحة»، ليكشف عن مدى رفض قوى الاستعمار القديم والجديد لمبدأ الندّية، على رغم ما يترتب على الرفض من نتائج وتداعيات خطرة.
للعداء الأميركي والبريطاني لإيران أسباب جيوسياسية وجيواستراتيجية
للعداء الأميركي والبريطاني لإيران أسباب جيوسياسية وجيوستراتيجية بديهية مرتبطة بتوجهاتها الاستقلالية وبموقفها المبدئي من إسرائيل. لولا هذا الموقف أساساً، ما كان الغرب ليعتمد سياسات بهذا القدر من التشدد حيالها وحيال برنامجها النووي. لكن ما يضاعف من التشدد الأميركي والبريطاني، خصوصاً تجاهها في الأزمة الدائرة حالياً في الخليج، هو جرأتها على التصدي السياسي والميداني والعسكري للطرفين عند قيامهما بأي عملية استفزاز و/ أو اختبار. إيران متهمة بالمسؤولية عن الهجمات على عدة ناقلات نفط، وتالياً عن تهديد الاستقرار في منطقة الخليج «الحيوية»، رداً على استراتيجية الحصار والخنق المعتمدة ضدها. لم يرهبها التحشيد العسكري الأميركي ولا خطاب ترامب التهويلي، ولم تتردد في إسقاط طائرة تجسس أميركية اخترقت أجواءها. وقد وفرت عملية الاحتجاز البريطانية لإحدى ناقلاتها فرصة لكي تفعل الشيء نفسه مع ناقلة بريطانية، والأهم أن تعرِض تبادل الناقلات. يهدف هذا العرض، ليس إلى استرجاع الناقلة الإيرانية فقط، بل أساساً إلى فرض التعامل بندّية مع إيران على بريطانيا، المستعمر السابق، في ما يشبه الرسالة الرمزية الموجهة للولايات المتحدة بقدر ما هي موجهة له. لم يتأخر وزير الخارجية البريطاني، دومينيك راب، في رفض العرض الإيراني، معتبراً أن الإيرانيين «إذا كانوا يريدون الخروج من الظلام وتقبّلهم كعضو مسؤول في المجتمع الدولي، فإن عليهم الالتزام بنظام المجتمع الدولي المبني على قواعد. لا يمكنكم المضي في احتجاز سفن أجنبية بشكل غير قانوني». طبعاً، لم يتطرق راب إلى مدى قانونية سياسة حصار الإيرانيين ومحاولة تجويعهم من قِبَل الولايات المتحدة، والتي تم احتجاز الناقلة الإيرانية على يدَي بلاده في سياقها عملياً، بناءً على اتهامات متعلقة بنياتهم في المجال النووي تُجمع الغالبية الساحقة من بلدان العالم، بما فيها بلاده، على بطلانها. بريطانيا، انسجاماً مع الموقف الأميركي، لا تستطيع الموافقة على العرض الإيراني الذي يؤدي إلى تحرير ناقلتها، لكن هذا العرض يكرّس سابقة في التعامل بين إيران وطرف غربي على أساس الندّية.
ليس سراً أن جناحاً وازناً داخل نظام الجمهورية الإسلامية كان معترضاً على الاتفاق النووي لما تضمن من تنازلات كبيرة قُدمت إلى الأطراف الغربيين، بينما تكدس إسرائيل القنابل والرؤوس النووية، وتمتلك دولة، كباكستان، حيث تحظى الجماعات المتطرفة بقاعدة اجتماعية عريضة بما فيها داخل الجيش وجهاز استخباراته، أسلحة نووية. أما إيران، فقد حُرمت من حقها في امتلاك الدورة النووية الكاملة انطلاقاً من اتهامات حول نيتها صناعة أسلحة نووية لم يعطَ أي دليل يثبتها.
على الرغم من ذلك، هي وقّعت على الاتفاق النووي أملاً بأن يمهد لفك اشتباك استراتيجي مع القوى الغربية، ويفتح صفحة جديدة تسمح لها بإحداث نقلة نوعية على المستويات الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية. لقد انتهى هذا الرهان منذ انتخاب ترامب، وكل التطورات التي تلت، منذ اعتماده خيار التصعيد مع إيران، تظهر أن أي تصور لحل الأزمة الراهنة، لا يستند بوضوح إلى مبدأ الندّية، لن يجد تجاوباً في طهران.
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2019/07/30