النزوح من البحرين إلى قطر... النوستالجيا والمكاسب
عباس بوصفوان
البعد التاريخي
يتصل البعد التاريخي بالمنافسة التقليدية بين عائلة آل ثاني، حكّام قطر، وعائلة آل خليفة، التي نزحت، بدءاً من ١٧٨٣، وعلى مراحل، من البر القطري إلى الجزر البحرينية، الغنية بالماء والنخيل واللؤلؤ، وكان ميناؤها يمثل نقطة اتصال حيوية، يسهم في تغذية أقاليم المنطقة الأخرى بكثير مما تحتاج إليه من مستلزمات العيش والتجارة.
كان العتوب قد وضعوا أيديهم على الزبارة، الواقعة على الشاطئ الشمالي الغربي لشبه جزيرة قطر، بعد نزوحهم من الكويت في ١٧٦٥. وبعد نحو عشرين عاماً من ذلك، تدخلوا عسكرياً في الجزر البحرينية، وأطاحوا الحكام التابعين لإيران فيها، وحكموا الجزر لزهاء ربع قرن من الزمان. وباعتبار بريطانيا القوة المهيمنة على الخليج، منذ مطلع القرن التاسع عشر على الأقل، فقد شكلت المعاهدات بينها وبين المشايخ المحليين المرتكز لنشوء إمارات «متصالحة».
وأسهمت تلك الاتفاقيات بشكل جلي في: أولاً، الحد من شيوع الغزوات بين المشيخات. وثانياً، تخفيض مستوى الصراعات بين أفرع الأسر المتنفذة داخل كل إمارة.
بعد هجومهم على قطر في ١٨٦٧، خلافاً للمعاهدات، تلقّى آل خليفة عقاباً من الانجليز، وخسروا جزءاً كبيراً من نفوذهم في الزبارة. وقد اشترطت بريطانيا تخلي أحد فروع آل خليفة عن البر القطري، مقابل نقل الشاب عيسى بن علي من الزبارة، وتعيينه حاكماً على البحرين، التي كانت تعيش حروباً داخلية بين أجنحة العائلة الحاكمة.
لاحقاً، رسمت دولة الانتداب الحدود المعتمدة دولياً بين البحرين وقطر، حين أصدرت في العام ١٩٣٧ قرار تبعية الزبارة لقطر، ثم بعد عشر سنوات من ذلك عام ١٩٤٧، أصدرت قراراً آخر يقضي بتبعية جزر حوار للبحرين. بسبب ذلك، فإن العديد من العوائل انقسمت بين البلدين، وظلت محل استقطاب الطرفين. وراهناً، فإن الكفة تميل لصالح الدوحة، الأكثر استقراراً، وقدرات مالية وناعمة، فيما البحرين غارقة في فوضى داخلية، ولا تمنحها التحالفات الإقليمية أرجحية مستدامة.
ولعل العائلات المهاجرة، بما في ذلك آل خليفة، تشعر الآن بخطأ قرارها النزوح إلى الجزر البحرينية قبل أكثر من قرنين، بيد أن قرار الترحال كان في محله، بالنظر إلى أن بحرين القرن الثامن عشر كانت عامرة ومزدهرة.
وشوق آل خليفة إلى قطر لا يتصل بالتاريخ والنوستالجيا، بل بالاكتشافات من الغاز الطبيعي التي حولت الدوحة إلى أكبر منتج للغاز المسال في العالم.
نموذج عبد الرحمن الباكر
في عام ١٩٥٤، اُسقطت الجنسية البحرينية عن عبد الرحمن الباكر، بدعوى أن الناشط السياسي الأبرز في البلاد قطري الجنسية. علم الباكر بالقرار من خلال رسالة تلقاها من المستشار الإنجليزي النافذ تشارلز بلغريف، تضمنت إفادة واضحة بأن للقيادي الوطني أن «يسافر إلى الدوحة وقت ما يشاء». احتجّ الباكر في رسالة جوابية بعث بها إلى بلغريف قائلاً: «سأحتفظ بجنسيتي البحرانية، وباق في البحرين». أما الحاكم حمد بن عيسى بن علي آل خليفة، فقد ردّ على شكوى الباكر بعدم علمه بالموضوع، وأن الانجليز وراء سحب أوراقه الثبوتية. إثر ذلك، وإلى جانب ملابسات أخرى، قرر الزعماء الوطنيون عقد اجتماع في مسجد بن خميس، في المنامة، في أكتوبر / تشرين الأول ١٩٥٤، ندّدوا فيه بسحب الجنسية من المناضل الشهير. كان الاجتماع مقدمة لالتئام مؤتمرات أخرى، بغية وضع أطر سياسية تقود الاحتجاجات التي كانت تتدحرج مطالبة بخروج الانجليز من الجزر، وتشكيل مؤسسات دستورية ونقابية. أسفرت الجلسات عن تشكيل هيئة الاتحاد الوطني، مناصفة من الشيعة والسنّة، وانتخاب الباكر زعيماً لها.
تصدرت الهيئة تحركات سياسية واسعة النطاق بين ١٩٥٤- ١٩٥٦، تعاملت معها الحكومة المحلية وسلطات الانتداب البريطانية بقسوة بالغة، وانتهت المرحلة بتهجير الباكر ورفاقه إلى جزيرة «سانت هيلانة».
ولد الباكر في المنامة في العام ١٩١٧، واضطرت عائلته إلى «النزوح»، في ١٩٣٣، إلى قطر «موطن الآباء والأجداد» على خلفية «انتكاسة مالية أفقدت العائلة كل ما تملك في البحرين»، لذلك كان الباكر يتنقل عبر وثيقة مرور صادرة من القنصلية البريطانية بصفته من «رعايا» دولة قطر.
عاد الباكر إلى البحرين مرة أخرى في 1936، بعد رحلة تجارية مُتعثرة، شملت: زنجبار، مطرح، دبي، وأبو ظبي، تعكس نموذج الخطوط التجارية للعوائل الخليجية، التي عملت بين مختلف الأقاليم، بين الساحلين الخليجي والهند والجوار الأفريقي. في فترة استقراره القصيرة في الجزر (1936- 1938)، عمل الباكر في شركة نفط البحرين، لكنه اضطر للعودة إلى قطر مرة أخرى بعد سنتين من ذلك، إثر وفاة أخيه جرّاء حريق أتى على جسمه، ولم يتوافر له العلاج في قطر.
ومن سوء حظ المصاب وعائلته أنه وصل إلى البحرين جثة هامدة، بعد نحو أسبوع من الحادث الأليم، وكان مفترضاً إدخاله إلى أحد المستشفيات «المتطورة» في المنامة، أملاً في انقاذه.
ترفض قطر مقولات «الإغواء والإغراء والاستهداف»، وتوضح أن النازحين رجعوا إلى «موطن الآباء والأجداد»
في شبه الجزيرة، التحق الباكر بشركة النفط القطرية، لكن مقامه لم يطل، فقد اضطرت الشركة إلى تعليق أعمالها في ذروة الحرب العالمية الثانية، فالتحق الرجل بوالده في مقر عمله في دبي، فيما كانت العائلة تقطن في الإمارة المجاورة رأس الخيمة.
بعد انقطاع دام نحو عشر سنوات، قضاها في التجارة بين القاهرة ونيروبي ودول أخرى، عاد الباكر إلى المنامة في 1948، وألحّ على استعادة جواز سفره «البحراني»، ووجد طلبه ذاك رفضاً من بلغريف، لكن الحاكم كان لديه «إصرار على اعطائي الجواز بحجة أنني بحراني، وعائلتي معروفة منذ القدم».
هذه العينة من التنقل المستمر بين إمارات الخليج والعراق وإيران، سنجدها شائعة لدى عائلات شيعية وسنية، استقرت في إحدى الدول، واكتسبت جنسيتها بعد الاستقلال. وهذا ينطبق بطبيعة الحال على عائلات قطرية أو عمانية أو احسائية أو نجدية أو إيرانية أو غيرها استقر بها المقام في الجزر البحرينية.
وبينما كان الباكر معارضاً شديد المراس، ويمكن اعتبار مغادرته البحرين مكسباً للحاكم والانتداب، فإن الموجة الجديدة من الهجرة تتم في زمن الحدود والدول المستقلة، وتصدُر عن جماعات موالية وقريبة من مركز القرار. لذا تعدّ هجرتها إضعافاً للمؤسسة الحاكمة، وانعكاساً لاضمحلال الثقة بالبرنامج السياسي للقصر. وإذا كانت أسباب الهجرة في القرن العشرين ذات منزع اقتصادي في الأغلب، فإن دوافع الرحيل بعد اندلاع الربيع العربي، لا يمكن حصرها بذلك.
النزوح الجديد.. وسياقه
تتهم المنامة العائلات النازحة بالتنازل عن جنسيتها البحرينية؛ وتحفيز الآخرين على «الهجرة والانتقال إلى قطر والتجنّس بجنسيتها»؛ وتضيف إلى ذلك بند «التحريض على كراهية نظام الحكم». كما تدّعي المنامة أن الكثير من مواطنيها يتم «إغواؤهم» بالنزوح، ومنحهم الجنسية القطرية، بهدف التأثير سلباً في استقرار الجزر، و«إفراغها» من أهلها.
بيد أن حصول بعض البحرينيين على الجنسية القطرية «سياسة قديمة»، تتم إما بعرض الدوحة التابعية على أسر بعينها، أو عبر نزوح بعض العائلات ذات الجذر القطري إلى «مواطن الأجداد» طلباً لـ«استعادة الجنسية».
لكنّ رأياً آخر يرى أن الدوحة لا تعرض الجنسية على البحرينيين ابتداءً، لكنها من المحتمل أن تنظر في مدى الحق في التجنّس لمن تثبت لهم جذور، من ناحية الأب، في شبه جزيرة قطر، من دون أن يعني ذلك الحصول التلقائي على الجنسية لمن يبرهن على أصله القطري. والأرجح أن كلا الرأيين صائبين، بالنظر إلى تجارب متعددة، يتحدث بموجبها ذوي العلاقة في الأمثلة المذكورة.
وقد يصعب فهم أن يكون تخلّي مواطن عن جنسيته، أو حصوله على تابعية دولة أخرى، فعلاً معادياً، في وقت يحصل المُستقطَبون الجدد إلى الجزر على الجنسية البحرينية، لأغراض سياسية بحتة وفاقعة، ويحتفظون ــ في الوقت عينه ــ بجنسيتهم الأصلية، بما في ذلك السعوديون الذين تم تجنيس الآلاف منهم.
ورغم أن عشرات الآلاف من العرب وغير العرب تم تجنيسهم في البحرين، لكن الإشارة هنا إلى السعوديين، حصراً، يأتي بالنظر إلى الاحتجاج البحريني على قطر لقيامها بتجنيس بحرينيين، فيما المنامة تجنّس – إضافة إلى السعوديين - باكستانيين وأردنيين ويمنيين وغيرهم، ممّن تم استقدامهم، في العقود الأخيرة، خصيصاً لتسجيلهم مواطنين، وللعمل في المؤسسة العسكرية والأمنية.
يجري ذلك وسط خطاب بحريني، رسمي وشبه رسمي، تنامى خلال العقد الأخير، يلحُّ على المواطنين الذين لديهم ملاحظات على النموذج الملكي الراهن، أو غير معجبين به، أو شكلوا معارضة مستدامة له، بأن يهاجروا إلى حيث يريدون، شرط أن لا يرحلوا إلى قطر، فالذهاب إليها خيانة توجب العقاب.
وتبالغ الحكومة البحرينية حين تتّهم الدوحة بالعمل على «إفراغ البحرين من مواطنيها الموالين»، ولا يوجد أيّ شواهد تدعم هذه الادعاءات، بل إن المتوافر من معلومات يعكس الاحتراس الدقيق في منح قطر جنسيتها لأهل الجزر.
من جهتها، ترفض قطر مقولات «الإغواء والإغراء والاستهداف»، وتوضح أن بالنازحين رجعوا من تلقاء أنفسهم إلى «موطن الآباء والأجداد». إنهم، إذاً، «قطريون استوطنوا البحرين، وعادوا يطالبون بجنسيتهم، وقد أعيدت لهم»، وهو الخطاب ذاته الذي تتبنّاه العائلات المهاجرة.
الأقرب إلى الصواب القول، إن الدوحة تستعرِض في هذا المجال بحذر بالغ، وإنها تلوّحُ بقدرتها على قض مضجع البحرين، في ملف ديمغرافي وسياسي مركزي للمنامة، أكثر مما تمضي الدوحة في استثمار هذه الورقة إلى نهايتها.
البواعث القطرية الاحترازية ترجع في جانب منها إلى الحذر التقليدي الذي تعتمده بلدان الخليج في منح الجنسيات للغير، مع استثناء البحرين، التي قطعت شوطاً في تكريس مشروع التغيير الديمغرافي واقعاً «يمشي على رجلين»، وهو مشروع يلقى دعم بعض قوى الإقليم والغرب.
وتأخذ الدوحة في إدارتها هذا الملف تفادي جلب مزيد من غضب الإقليم الخليجي. وفي هذه المسألة، من المحتمل أن تجد المنامة تفهّماً كويتياً وعمانياً، وليس دعماً إماراتياً وسعودياً معتاداً وحسب، بالنظر إلى أن النزوح من البحرين يتم لجماعات شديدة الولاء للحكم، ويزيد رحيلها من انكشاف السلطة البحرينية داخلياً. والتروّي القطري يعود إذاً، وهذه مفارقة، إلى تفادي إصابة الحكم البحريني في مقتل، بالنظر إلى عدم قدرة المنامة على تحمّل تبعات هجرات مكثفة من قبل الموالين، يعملون في قطاعات حساسة. فالدوحة لا تسعى إلى أن تنزف المنامة أكثر مما تحتمله قواها، لأنها لا ترى بديلا سنياً يمكن أن يشكل خلفاً مستداما، كما لا ترى في الخيار الديمقراطي او الأغلبية الشيعية بديلا أكثر نجاعة.
مع ذلك، وبالنظر إلى أحلام أهل الجزر البحرينية في الهروب من نفقهم المعتم الطويل، وتمنياتهم في تشييد مستقبل أكثر ثباتاً ورخاءً، يُعتقد أن تقديرات حكومة البحرين قد تكون في محلها لجهة توقّع رحيل الآلاف من البحرينيين، شيعة وسنّة، موالين ومعارضين، إلى الدوحة، عند فتح الجار الخليجي الغني أبواباً أكثر رحابة لاستقبال البحرينيين، وإتاحة الفرصة أمامهم للاستقرار في ربوع شبه الجزيرة. يغذي ذلك الأمل أن الدوحة تتشارك القيم البحرينية ذاتها، والرحيل المفترض لا يحمل قلق ضياع الهوية والخصوصية، بيد أن هذه الفرضية غير مطروحة، وهي أقرب إلى حلم يقظة بالنسبة إلى بحرينيين كثر.
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2019/09/20