ثوابت الاحتلال وحقائق المصالحة
علي محمد فخرو
بهدوء وموضوعية وصدق دعنا نوازن بين ما يمثله الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وبالتالي استعمار شعبها، وبين ما تدعيه جهات المصالحة مع العدو الصهيوني الوجودي.
لنبدأ بادعاءات ومسيرة الماضي من قبل المحتلين، وممارسات الحاضر، وما تأمل تحقيقه الصهيونية في المستقبل، كثوابت من ثوابت هذا الوجود الاستعماري في جزء من الوطن العربي.
1- الإدعاء بأن فلسطين هي أرض بلا شعب لتأكيد أسطورة دينية متوهمة بأن اليهود، من دون خلق الله جميعاً بمن فيهم العرب، هم شعب الله المختار، وأن الله منحهم أرض إسرائيل الكبرى، من النيل إلى الفرات، وبالتالي آن أن تعود لأهلها الحقيقيين. هكذا يُلغى شعب عربي سكن فلسطين عبر أكثر من ألفي سنة باسم وجود يهودي في الماضي السحيق لم يتعد المئتي سنة على أكثر تقدير. هذا الإدعاء يُعلم ويرسخ في أذهان أطفال وشباب اليهود في مدارسهم ومؤسساتهم الدينية، أي لإبقائه حياً ومتواجداً في المستقبل.
2- في السبعين سنة الماضية لم تنفع حروب عدة ولا انتفاضات شعبية في زحزحة القوى الصهيونية عن أي من أهدافها. ومنذ ثلاثين سنة قيل بأن الدعم الأمريكي الهائل للكيان الصهيوني سيجعل من المستحيل تحرير فلسطين، ولذا فالأفضل الدخول في مفاوضات مع الكيان للوصول إلى حلول وسط. وأرغم الفلسطينيون على تعديل دستور منظمة التحرير، ليقود إلى الاعتراف بالكيان الصهيوني والدخول في مفاوضات بشأن مصير الشعب الفلسطيني في فلسطين وفي الشتات.
لقد قالها الصهاينة مرات كثيرة بأنهم لن يقبلوا قط بتطور علمي تكنولوجي أو تفوق عسكري عند أي دولة عربية
وتحت مهزلة رعاية تلك المفاوضات من قبل لجنة رباعية تهيمن عليها أمريكا الصهيونية المنحازة كلياً للكيان، بما فيها هيئة أمم عاجزة مبتزة، قضمت أراض جديدة، وشُيدت عشرات المستعمرات في الضفة الغربية، وزج الآلاف في السجون الصهيونية، واقتلعت الأشجار وهدمت البيوت، ودمرت غزة مرات ومرات، وبني جدار العزل العنصري الأبارثادي، واعتبر رجوع ملايين الفلسطينيين اللاجئين إلى وطنهم خطاً أحمر، وتلطخت أيادي القتلة الصهاينة بدماء آلاف الضحايا من النساء والأطفال والشيوخ، وأعلن عن يهودية الكيان واعتبار الفلسطينيين ساكنين مؤقتين. وكانت التمثيلية واحدة: طلب تنازل اكثر من قبل الفلسطينيين الضحية وإعطاء هدايا وامتيازات أكبر للقاتل السفاح. وكانت النتيجة أن الاثنين والعشرين في المئة من أرض فلسطين التاريخية التي كانت للفلسطينيين في بدء المفاوضات تقلصت إلى خمسة عشر في المئة، وبعد الضم المقترح ستصبح 10%. وتوجت أمريكا الصهيونية كل ذلك بإعطاء القدس الشرقية وهضبة الجولان هدية مجانية للكيان.
وعندما انتفضت الضحية وأنهت المهزلة اُتهمت بأنها عطلت المفاوضات وبالتالي فهي المسؤولة عن الوصول إلى الباب المسدود.
وإذن فلا الحروب والانتفاضات أقنعت الكيان بالتنازل عن شبر واحد أو هدف سياسي صهيوني واحد، ولا استسلام القيادة الفلسطينية المذل في أوسلو أقنعهم بأي تنازل.
3- لنتبين طبيعة قيام دولتين عربيتين، مصر والأردن، بالتوقيع على صلح مع الكيان الصهيوني. لقد كان صلحاً في مقابل استرجاع أراض. ومهما تباينت الآراء حول صحة أو خطأ ما حدث فإن الأمر يبقى تحت مظلة استرجاع الأرض المسروقة في مقابل الإصرار لتوقيع صلح هش ليس فيه روح وليس فيه طعم، وذلك بسبب رفضه من قبل الشعبين العربيين. وهذا ليس تبريراً وإنما هو وصف لواقع كانت قوة الابتزاز فيه هائلة.
4- لقد قالها الصهاينة مرات كثيرة، بأنهم لن يقبلوا قط بتطور علمي تكنولوجي أو تفوق عسكري عند أي دولة عربية إذا كان الكيان يشعر أو يتخيل أصغر أمكانية لتهديده في المستقبل البعيد. ولذلك فإن هذا السيف المسلط على رقاب العرب، وبدعم أمريكي كامل، سيبقي الحقلين، العلمي التكنولوجي والعسكري، تحت تحكم الكيان سواء بالنسبة للشراء والامتلاك، أو بالنسبة لبنائه ذاتياً. من هنا الرفض التام لامتلاك أي قدرات علمية أو تكنولوجية في حقل علوم الذرة من قبل أي دولة عربية ما لم يكن تحت إشراف دولي مذل ومعرقل يلعب الكيان فيه دوراً من وراء ستار أمريكي.
أمام هكذا ثوابت استعمارية واضحة وعنيفة وعازمة على قضم ثلث الوطن العربي في نهاية المطاف ألا يحق لنا أن نسأل المنادين بالصلح عن كيفية تعاملهم مع هذا العدو إن هم أبرموا الصلح؟
فاذا كان هكذا عدو لم تجعله، لا حروب ولا انتفاضات ولا تنازلات فلسطينية مذلة، أن يتنازل عن ذرة من الأرض المسروقة أو جانب محدود من هلوساته الدينية وأطماعه التوسعية وفرض هيمنته على اقتصاد الشرق الأوسط برمته، فهل حقاً لديه الأخلاقية والضمير والكرامة ليتنازل عن أي شي بعد فتح الأسواق لبضاعته، والبلاد لاستثماراته، والشركات العربية لامتلاكها، والساحة الأمنية لاستخباراته، والإتيان بألوف الجواسيس تحت مسمى السياحة، وتضاعف السياحة في كيانه بمجيء ملايين العرب الطامعين في مغامرات اللذات؟
هل في تاريخه وايديولوجيته وأساطيره الدينية المتخيلة ما يوحي بأنه لن يأخذ كل ميزات السلام لنفسه ويترك العلقم والعار وبكاء الضحايا الفلسطينيين والعرب وخيبة الأمل والشعور بالهوان والاحتقار والدخول في صراع مع الملايين الرافضين من شعوبهم لمن مدوا له أيديهم، سواء بحسن نية أو بخطأ سياسي، سواء بالابتزاز أو بالقهر، سواء بحرق هوية العروبة أو بالخروج على مقررات الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي وهيئة الأمم المتحدة وأعداد كبيرة من المؤتمرات الدولية؟
سيحتاج إبراز حقائق وتذبذب المصالحة لمقال مستقل في الأسبوع المقبل.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2020/08/20