أميركا تُضرَبُ تحت الحزام وبايدن يتهيّب صعود الجبال
محمد صادق الحسيني
صحيح أنّ الولايات المتحدة دولة عظمى وتمتلك إمكانيات عسكرية هائلة، تنفق على تعزيزها وتشغيلها أكثر من ٧٥٠ مليار دولار سنوياً، إلا أنّ كلّ هذه القوة العسكرية، التي تشمل ألف قاعدة عسكرية أميركية في مختلف أصقاع الأرض، غير قادرة على توفير الحلول اللازمة للأزمة الأميركية العميقة، التي تعاني منها البلاد في هذه الفترة بالذات.
وهذا ما تؤكده وثيقة البيت الأبيض، التي صدرت قبل أيام واطلق عليها اسم: «استراتيجية الأمن القومي المؤقتة»، والتي تقول حرفياً في فقرتها الأولى: «نحن نواجه وباءً عالمياً وكساداً اقتصادياً طاحناً وأزمة عدالة عنصرية (نظام العدل الأميركي) وحالة طوارئ مناخية متفاقمة. كما نواجه عالماً تتصاعد فيه النزعات القومية (المتطرفة) وتراجعاً للديمقراطية وتنافساً مضطرباً مع الصين وروسيا ودول شمولية أخرى (المقصود كوريا وإيران وفنزويلا) وثورةً تكنولوجيةً تعيد صياغة كلّ مناحي أو تفاصيل حياتنا. إن عصرنا هو عصر تحديات غير مسبوقةٍ وهو في الوقت نفسه فرصةً لا مثيل لها».
هذا ما جاء في الفقرة الأولى من الوثيقة، الممهورة بتوقيع الرئيس الأميركي جو بايدن نفسه، وهذا كلام دقيق تماماً ولا غبار عليه. لكن الأهمّ، من الاعتراف بهذه الحقائق وإبرازها بهذا الوضوح، هو استخلاص العبر والنتائج، التي ستترتب على عناصر هذه الأزمة العميقة حاضراً ومستقبلاً، وتقرّر النجاح من عدمه في مواجهة هذه الأزمة وتداعياتها، المحلية أميركياً والدولية أيضاً.
الأمر الذي يجعل من الضروري، وكما ورد في الوثيقة أيضاً، «ان نشق (الولايات المتحدة الأميركية) طريقاً جديداً لمواجهة هذه التحديات». وهذا صحيح أيضاً، لكن النظرة إلى السياسات التي تتبعها الإدارة الجديدة، برئاسة الرئيس الديمقراطي جو بايدن، لا تشير الى توجهات مطمئنة او واعدةً، سواء على الصعيد الداخلي الأميركي او على الصعيد الدولي. وذلك للأسباب التالية:
أولاً: داخلياً لا توجد ايّ مؤشرات على توجّه الإدارة الجديدة الى تطبيق سياسات، اقتصاديةً واجتماعيةً وقانونيةً واداريةً، تقود الى تغيير جذري في السياسة الأميركية الداخلية وطريقة تعاملها مع عناصر ومكونات الشعب الأميركي، من مجموعات ذات أصول أفريقية إلى تلك اللاتينية وغيرها. اذ انّ استمرار تطبيق السياسات نفسها سيكون بمثابة الوقود الدائم للأزمات الاجتماعية والانقسام المجتمعي الخطير، إضافة الى موجة التطرف الأعنف والمتنامية بشكل سريع في المجتمع الأميركي، والتي لا يستبعد محللون أميركيون أن تفضي إلى ما يشبه الحرب الأهلية أو الحروب الانفصالية.
ثانياً: أما على الصعيد الدولي فإنّ الوثيقة تقول بانّ المخاطر، التي تواجهها الولايات المتحدة لا تعرف حدوداً وتجب مواجهتها بجهود مشتركة. وهذا كلام دقيق، لكن الوثيقة تعود خطوتين الى الوراء وتتراجع عن المواجهة المشتركة، عندما تعود، في الفقرة اللاحقة، الى التركيز على الخطر الصيني والروسي… وغيرهما من الدول الشمولية. الامر الذي يعني ان لا جديد في سياسة ادارة بايدن وانّ ما تقوم به هذه الإدارة لا يتعدى كونه اعادة تدوير نفايات الإدارات السابقة، من ديمقراطية وجمهورية، ولا تنطوي على أيّ تغيير جوهري، يمكن ان يؤدّي الى انفراج في العلاقات الدولية، يتبعه استقرار سياسي استراتيجي، يكون بمثابة تربة خصبة لتعاون دولي، في مجال التنمية المستدامة والحفاظ على البيئة وموارد الكوكب الطبيعيّة.
فلو أرادت إدارة بايدن ذلك فعلاً، فإنّ تحقيق مثل هذه التحوّلات، في سياسة الولايات المتحدة الأميركية، يتطلب منها القيام بالخطوات التالية:
1 ـ انّ تبدأ إدارة بايدن بتقليص انتشار قواتها، البرية والبحرية والجوية، والبدء بتفكيك قواعدها العسكرية في كافة أنحاء العالم، وأوّلها قاعدتها الأكبر، ونعني هنا كيان الاحتلال «الإسرائيلي» المقام على أرض فلسطين المحتلة، وليس سحب القوات الأميركية من «الشرق الاوسط» وافغانستان فقط، كما طالب رئيس لجنة القوات المسلحة في الكونغرس الأميركي، آدم سميث، خلال حديث له في معهد بروكينغز الأميركي، يوم الجمعة 5/3/2021، وذلك تقليصاً للنفقات الهائلة، المترتبة على هذا الانتشار العسكري غير المبرّر على الإطلاق.
اذ انّ مواجهة التحديات الكبيرة، سواء من خلال تعاون دولي او من خلال عمل أحادي الجانب داخل الولايات المتحدة، يتطلب توفير الأموال اللازمة لتنفيذ مشاريع استثمارية عملاقة، قادرة على إنقاذ الولايات المتحدة الأميركية من أزماتها العميقة، وهي أموال لن تتوفر في ظل هذا الانفاق العسكري المبالغ فيه، والمفروض على كلّ الإدارات الأميركية، من قبل ارباب مجمع الصناعات العسكرية الأميركية، ولأسباب لا علاقة لها بحماية أميركا ومصالحها في العالم، وإنما بسبب عبادة هؤلاء الارباب للمال وتكديس المزيد من الأرباح الهائلة.
وكما ورد في الصفحة رقم 7، من وثيقة الأمن القومي الأميركي المؤقتة، فإنّ موازين القوى في العالم قد تغيّرت، ولكن هذا التغيير لا يعني، ما جاء في الوثيقة من ان هذا التغيير قد جعل الصين مصدر تهديد رئيسياً، وإنما يجب على الإدارة الأميركية والرئيس بايدن شخصياً ان يعترفا بموازين القوى الجديدة الحالية والنظر اليها من منظور إيجابي، يجعل منها أرضيةً للتعاون الندّي بين الدول، بما يؤمِّن المنافع والمصالح المشتركة بين دول العالم.
كما يجب على الإدارة الأميركية ان تتبع ذلك بالابتعاد عن سياسة الأحلاف العسكرية، كالحلف العسكري الأمني، الذي يجري الحديث حوله، بين دول التطبيع الخليجية والكيان الصهيوني، وكذلك الابتعاد عن مواصلة الحشد العسكري الاستراتيجي الخطير، الذي تنفذه الولايات المتحدة، في شرق أوروبا وبحر البلطيق والبحر الأسود وجنوب المحيط الهادئ ضدّ روسيا، او تلك الحشود والاستفزازات العسكرية المتواصلة، التي تقوم بها الولايات المتحدة في بحار الصين المختلفة وبحر اليابان وبحر الفلبين وغيرها من البحار. إضافةً الى زيادة تسليح جزيرة فورموزا (تايوان) الصينية المحتلة، في نقض واضح وصريح لاتفاقيات أميركية صينية ثنائية تعتبر فورموزا جزءاً من أراضي جمهورية الصين الشعبية.
وعطفاً على ما ورد اعلاه، فإنّ هذه الوثيقة او ما يتم ترديده، بشكل متزايد، من قبل مسؤولين أميركيين، حول نيّات الولايات المتحدة لحل المشاكل الدولية بالوسائل الدبلوماسية وليس العسكرية، إلا انّ الممارسات الفعلية لهذه الإدارة لا تختلف إطلاقاً عن ممارسات الإدارات السابقة، خاصة في ما يتعلق بقضايا «الشرق الاوسط»، وعلى رأسها القضيّة الفلسطينيّة، رغم أنها لم تذكر في استراتيجية بايدن المؤقتة.
فها هي ادارة بايدن تواصل الضغط الاقتصادي والمالي الهائل على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، هادفةً ليّ ذراعها وإرغامها على قبول تعديلات معينة، مطلوبة «إسرائيلياً»، على نصوص الاتفاق النووي الإيراني. وها هي الإدارة نفسها، وبالاتفاق بين وزير الدفاع الأميركي الجديد، الإسرائيلي الهوى والولاء، الجنرال لويد أوستن، وبين وزير حرب الكيان الصهيوني، الجنرال الفاشل بني غانتس، تطلق التهديدات العسكريّة بضرب المنشآت النووية الإيرانيّة، كما صرّح بذلك قبل يومين وزير حرب نتن ياهو، الذي لا يمكن أن يجرؤ على إطلاق تصريحات كهذه من دون ضوء أخضر أميركي، بخاصةً أنه هو بالذات من فشل في الحرب على المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة سنة 2014، حين كان رئيساً لأركان الجيش «الإسرائيلي». فكيف له ان يهدد إيران اليوم من دون غطاء أميركي!؟ مضافاً الى ذلك تهديدات نتن ياهو وبني غانتس وغيرهم، المستمرة، ضد لبنان والمقاومة الإسلامية هناك، بسبب ومن دون سبب، من دون أخذ موازين القوى العسكرية الميدانية بعين الاعتبار!
وعليه، وبالنظر الى الغارات الجوية، التي نفذتها الطائرات الحربية الأميركية في العراق (على الحدود العراقية السورية) قبل أيام، وتلك التي نفذتها الطائرات الإسرائيلية في محيط العاصمة السورية قبل ثلاثة ايام، وبالنظر الى مماطلة الادارة الأميركية، في تحويل كلامها عن ضرورة وقف الحرب على اليمن الى أفعال، فإنّ ذلك يعني انّ قوات حلف المقاومة سوف تكون مضطرةً، وربما قبل نهاية هذا العام، الى تنفيذ المرحلة النهائية من هجومها الاستراتيجيّ، الهادف الى تحرير فلسطين كاملةً، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
أي أن المناورات التي تقوم بها هذه الإدارة، ومعها الذنب الصهيوني ونواطير النفط في الخليج الفارسي، ورغم التوصل الى ما أطلق عليه اسم: «اتفاقيات أبراهام»، او ما يجري العمل على زرعه في هذه الدولة العربية او تلك، من قبيل «بيت إبراهيم» او «ملتقى الأديان» او ما شابه ذلك من مسميات، لن يغيّر في واقع الأمر شيئاً. اذ ان من يمتلك القوة والارادة، القادرتين على التحكم بمسارات الميدان، هو من يرسم خرائط المستقبل في المشرق العربي، وليس غير ذلك من الوسائل والادوات.
وتأكيداً على ما ورد في الصفحة رقم 8، من استراتيجية بايدن المؤقتة، حول الثورة التكنولوجية، التي يشهدها العالم، في مجالات الذكاء الصناعيّ وحساب الكميات ( Quantum Computing ) وتقنية النانو وغيرها والتي ستشكل تحدياً وأملاً كبيراً (للبشرية)، والتي ستؤثر بعمق على الاقتصاد وموازين القوى العسكريّة بين الدول، وكذلك على مستقبل العمل (كيف سيصبح شكل العمل)…
وتضيف الوثيقة أن إمكانيات المستقبل (من خلال الثورة التكنولوجيّة المذكورة أعلاه) واعدةً جداً. فصناعة التكنولوجيا المتقدمة، لإنتاج الطاقة النظيفة، ضرورية جداً بإبطاء عملية التغير المناخي، كما أن التقدّم في التكنولوجيا الخاصة بالصناعات الإحيائيّة biotechnology قد يفتح آفاقاً واسعةً لصناعة العقاقير اللازمة لمكافحة الأمراض (يقصدون الأمراض التي يستعصي علاجها حتى الآن).
هذا الى جانب التأثيرات الهائلة التي سيتركها بدء العمل بتكنولوجيا الاتصالات المسمّاة بالجيل الخامس او G 5، والتي ستؤدي الى ثورة في مجالات عدة، على رأسها مجال التجارة ومجال الوصول الى المعلومات (ومعالجتها طبعاً). الأمر الذي سيضمن للدولة المتفوّقة في هذا المجال دوراً محورياً في اقتصاد وسياسات واستراتيجيات
ومستقبل العالم والبشرية.
وهنا بالضبط يقع مركز الصراع الاستراتيجي، الدائر بين الولايات المتحدة والقوى الدولية الأخرى ومن بينها محور المقاومة وعلى رأسه إيران. اي الصراع يدور حول الانعتاق من الهيمنة والسيطرة الاستعمارية الأميركية، تماماً كما قال قائد الثورة الاسلامية الإيرانية الامام السيد علي الخامنئي، في خطاب له قبل ايام، بأن الولايات المتحدة لا يعنيها ما اذا كانت إيران تعمل على انتاج سلاح نووي ام لا وان ما يعنيها هو حرمان إيران، وغيرها من الدول النامية، من التقدم في مجال الصناعة النووية السلمية التي تؤمّن لها إمكانيات إنتاج الطاقة النظيفة، سواءً على المدى القريب او البعيد، وإدامة خضوعها للسيطرة الاستعمارية واستغلال الشركات المتعددة الجنسيات لإمكانيات شعوب العالم.
اي ان الصراع ليس صراعاً على نفوذ إيران في المنطقة كما يزعمون دوماً او على علاقات إيران العسكرية الحاليّة، مع أطراف محور المقاومة، وانما هو صراع استراتيجي على مستقبل المنطقة، بما يضمن استمرار تقدم شعوبها والحفاظ على سيادة ووحدة أراضي دولها.
عالمهم يتراجع وينحدر وعالمنا يتقدّم ويصعد.
بعدنا طيبين قولوا الله…
جريدة البناء
أضيف بتاريخ :2021/03/08