العالم المتناقض بين تلاشي الحدود وبناء جدران العزل
د. سعيد الشهابي ..
في عالم تتلاشى فيه الحدود بين مكوناته وتتراجع المسافات بين شعوبه، أصبحت أوضاعه أكثر تأثرا بالعلاقات في ما بين الدول الكبرى. ولذلك أصبح الحكم على مدى تقدمه في مضامير السياسة وحقوق الإنسان أيسر مما كان الأمر عليه قبل عقود، خصوصا مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية. ولكن هل نجم عن ذلك تحسن أوضاع شعوب العالم الثالث؟ أم أن أساليب القمع تغيرت؟ وربما السؤال الأكبر: هل أصبح العالم أكثر أمنا؟ أكثر حرية؟ أكثر تعايشا؟ أكثر قبولا بالآخر؟ أكثر اهتماما بالبيئة والطبيعة؟ أقل فقرا وأمراضا؟ من المؤسف القول أن الإجابات على أغلب تلك التساؤلات ستكون بالنفي، فما الأسباب؟ وإلى أين يتجه عالم القرن الحادي والعشرين؟ وهل انقرض الجيل المفكر الذي أوحى للشعوب قبل ربع قرن بان الديمقراطية الليبرالية ستسود العالم؟ أم أن مفكري «العالم الحر» تغيرت أولوياتهم فخفتت أصواتهم وتلاشى تأثيرهم؟
يخطىء من يعتقد أن التطور التكنولوجي قد صاحبته انفراجات سياسية إو حقوقية أو أمنية. فالمؤشرات توحي بعكس ذلك تماما. يعرف الساسة الغربيون ذلك لأن مؤسساتهم البحثية والدراسية والحقوقية والمختصة باستطلاع الرأي العام تؤكد أن الانحدار في تلك الجوانب مستمر، وتؤكد أيضا تواطؤ دول الغرب في ذلك التراجع بدعمها الاستبداد وتجاهلها حقوق الإنسان.
ومن تلك الجهات المنظمات الحقوقية كالعفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، والمتخصصة مثل فريدوم هاوس والشفافية الدولية وغيرهما. وللتدليل على ذلك يمكن استقراء الأوضاع من خلال مفردات عديدة تشير جميعها باتجاه واحد: تراجع مؤشرات الحرية وحقوق الإنسان. فهل لهذا التراجع علاقة بتوسع الفجوة بين الفقراء والأغنياء؟
في الأسبوع الماضي انشغل الرأي العام الألماني بقرار رئيسة الوزراء الألمانية، انغيلا ميركل، إحالة الفكاهي يان بومرمان إلى التحقيق وربما القضاء استجابة لطلب من رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان. وتجدر الإشارة إلى أن السنوات الأولى من حكم «الإسلاميين» الأتراك تميزت باحترام حقوق الإنسان والتفاعل الايجابي بين رموزه والشعب. وبرغم «إسلامية» النظام فقد قبله الأوروبيون بعد عقود من حكم العسكر الذين أساؤوا لتلك الحقوق. ولكن ثمة نزعة لدى حكام أنقرة نحو التفرد في الحكم ومحاصرة الحريات العامة. يضاف إلى ذلك أن الاتحاد الأوروبي ما يزال مصرا على رفض عضوية تركيا برغم أنها عضو بحلف الناتو. وهنا لا يمكن التقليل من ذكاء حكام تركيا وقدرتهم على استمزاج الرأي العام في الغرب. فقد أدركوا أن الغربيين متساهلون تماما إزاء قضايا الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. فحين يضج العالم الطلابي في بريطانيا احتجاجا على انتخاب طالبة مسلمة رئيسا للاتحاد الوطني للطلاب البريطانيين، أليس ذلك مؤشرا لتوجهات غير ايجابية إزاء قيم التعايش والقبول بالآخر والمواطنة المتساوية وحرية التعبير والمعتقد؟
الرئيسة الجديدة انتخبت بطريقة ديمقراطية ووقفت ضد التطرف والإرهاب، بالإضافة لنزعاتها التحررية على المستوى الشخصي. كل ذلك لم يشفع لها لأنها «مسلمة» و «سوداء».
أما فضاء الاحتجاج هنا فليس عالم السياسيين أو الاقتصاديين، بل الفضاء الطلابي الذي يفترض أنه ما يزال متشبثا بما يمكن اعتباره «قيما فطرية» فرضتها عقود الحرية والانفتاح بعد الحرب العالمية الثانية. ويفترض أن تكون الحركة الطلابية أكثر القطاعات المجتمعية تحررا وأقلها تحجرا. الرئيسة الجديدة للاتحاد الوطني للطلاب اتهمت كذلك بما أصبح موضة واسعة اسمها «معاداة السامية» تطلق على من يعترض على الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وسياساته، وهي التهمة التي تستخدم لإسقاط الأشخاص.
وثمة خشية من توسيع دائرة الاستهداف لتشمل منتقدي الأنظمة الديكتاتورية بعناوين شتى في مقدمتها «الإضرار بالمصلحة الوطنية». وبموازاة ذلك بدأ الهجوم المضاد للمرشح العمالي لمنصب «عمدة لندن»، السيد صادق خان. فثمة إشارات واسعة لدينه وعلاقاته ببعض رجال الدين مثل الشيخ يوسف القرضاوي. ففي غياب ملفات الفساد مثلا، هناك ملفات الانتماء الديني والعرقي التي تستخدم كسلاح أخير ضد «الآخر» المختلف دينا ولونا، الذي سيبقى كذلك مدى العمر برغم الشعارات الأخرى.
ربما من أكبر الانجازات التي عاصرها الجيل الحالي من سكان الكوكب سقوط جدار برلين في 1989. تزامن ذلك السقوط مع مقولات أخرى من بينها «النظام العالمي الجديد» الذي كان يومها واعدا بشيء من الحرية واحترام حقوق الإنسان.
وفي الوقت الذي بشر فيه فرانسيس فوكوياما، متفائلا جدا، بسيادة «الديمقراطية الليبرالية» التي تعبر عن ذروة التطور البشري الذي ينتهي التاريخ به، فقد كانت تنبؤات صمويل هانتنغتون، أكثر دقة، عندما تحدث عن حتمية «صراع الحضارات»، وهو تنبؤ مهم تتوالى مصاديقه اليوم. فقد استبدل جدار برلين بجدران عازلة عديدة: أولها جدار العزل الذي بناه الإسرائيليون للمفاصلة مع الفلسطينيين، وثانيها الجدار العازل الذي تبنيه تونس على حدودها مع ليبيا لمنع وصول الإرهاب إلى أراضيها. وثالثها: الجدار الذي تحدث عنه بعض الساسة العراقيين في بغداد لمنع وصول الإرهابيين.
وفي شهر كانون الثاني/يناير الماضي تعهد المرشح الجمهوري، دونالد ترامب، ببناء جدار عازل لوقف تدفّق اللاجئين اقتداءً بـ«سور الصين العظيم». وقال «ترامب» خلال خطاب ألقاه في جامعة ليبرتي: «سنقوم بكل ما في وسعنا لحماية المسيحية، وإذا نظرنا إلى ما يحدث في العالم، فسنجد أن الديانة المسيحية محاصرة، فإذا كنت مسيحيا في سوريا فسيقطع رأسك». ورد عليه البابا قائلا إن «الشخص الذي يفكر فقط في بناء الجدران أيا كانت، وليس بناء الجسور فليس بمسيحي». هذا التراجع عن القيم الأساسية يمثل مشكلة كبيرة للإنسانية، لأنها أحد الأسس الرادعة عن الخروج من الفضاء الإنساني. ومن نتائج ذلك تعمق أزمات العالم وارتفاع وتائر الاضطهاد والتعصب والتطرف والتباغض بين الإفراد والجماعات والأمم.
ويمكن القول أن غياب القيادات ذات البصيرة الإنسانية والقيم الراقية وحرية التصرف واتخاذ المواقف من أهم أسباب هذا التداعي الأخلاقي، ليس في دول العالم الثالث فحسب، بل في الغرب أيضا. فمثلا كان بأمكان الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، أن يصبح شخصية تاريخية متميزة لو كانت لديه الشجاعة الكافية لاتخاذ المواقف وتقديم المبادىء الإنسانية على المصالح الضيقة للولايات المتحدة. فقد قام بزيارة قد تكون الأخيرة في عهده للمملكة العربية السعودية وبريطانيا. وهو يعلم أن هناك قضايا كبرى تتصل بشكل أو آخر بالبلدين.
فالسعودية تسعى لتزعم منطقة الشرق الأوسط وبسط نفوذها على المنطقة بأساليب شتى: مالية وأمنية وعسكرية. وبريطانيا، هي الأخرى، تخطط لعودة أوسع للمنطقة، وقد بدأت بترسيخ وجودها ببناء قاعدة عسكرية لها في البحرين وتزمع بناء قواعد أخرى. البلدان عجزا حتى الآن عن طرح منظومة سياسية تحاصر الأزمات المتصاعدة في المنطقة وانعكاساتها على العالم.
كان الرئيس أوباما قادرا على التأثير المباشر على كل من الرياض ولندن لانتهاج سياسات أخرى توقف حدة الاستقطاب على الصعدان السياسية أم الدينية أم المذهبية. ولكنه لم يفعل ذلك بحماس، وأن كان قد سعى لتخفيف حدة الاستقطاب بين السعودية وإيران.
أوباما يعلم أن ثلاث قضايا يجب أن تعالج بشكل متزامن: تخفيف القبضة الحديدية على الشعوب بإشاعة الحرية، تفعيل منظومة حقوق الإنسان واحترامها في دول المنطقة، والتعاطي الجاد مع القضية الفلسطينية بهدف حلها ووضع حد للتعنت الإسرائيلي ووقف السياسات التوسعية وبناء المستوطنات. كان على أوباما أن يدرك أن التقارب السعودي ـ الإسرائيلي إنما يساهم في أحداث حالة استقطاب أكثر تعقيدا، ويشجع التوجهات المتطرفة، ويلهب الحماس الشعبي ضد هذه السياسة، وسيؤدي ذلك لترسيخ ظواهر التطرف والعنف.
أوباما كان قادرا على ذلك، ولكنه لم يفعل. فقد استطاع، بتدخل محدود، ضمان إطلاق سراح الشاب تقي الميدان، وهو مواطن من أصول بحرانية يحمل جنسية أمريكية، كان معتقلا لدى سلطات المنامة منذ أربع سنوات. كما طالبت واشنطن مصر بالتحقيق بشكل كامل في قضية مقتل الباحث الايطالي جوليو ريجيني. وهذا يؤكد أن أمريكا تستطيع القيام بدور ايجابي في المنطقة بدعم الحريات واحترام حقوق الإنسان لو أرادت ذلك. ولكن الواضح أن الرئيس أوباما سيترك منصبه نهاية العام بدون أن يحدث تغييرات جوهرية على سياسات بلاده التي جعلتها هدفا للكثير من الأوساط العالمية ومنها قوى التطرف والعنف.
أوباما لا يستطيع أن يكون مختلفا عن بقية الزعماء إلا إذا كان يتمتع بشخصية من نوع آخر، على غرار الشخصيات التاريخية التي فرضت نفسها على التاريخ مثل مانديلا وقبله غاندي. ولذلك بقي الزعماء الغربيون ملتزمين بتبعات سياسات بلدانهم الاستعمارية، بدون أن يبرز منهم من هو أقوى من التاريخ ليفرض عليه مسارا آخر باتجاه أكثر إيجابا وأقل رغبة في الهيمنة ومسايرة الاستبداد والتنكر لحقوق الإنسان.
وما تزال أمريكا تبحث عن سياسات تنسجم مع تطلعات «الأجداد المؤسسين»، وهو حلم بعيد لن يتحقق إلا على أيدي رجال ما تزال أمريكا تعقم عن انجابهم.
صحيفة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2016/04/27