مائة عام الشتات قد تتكرر بنسخة جديدة من سايكس بيكو
د. سعيد الشهابي ..
مائة عام من التمزيق المتواصل لهذه الأمة تتزامن مع ذكرى اتفاقية سايكس بيكو التي توصل إليها وزيرا خارجية بريطانيا وفرنسا في 23 أيار/مايو 1916.
قرن كامل من ضياع بلدان العرب أظهر العجز البنيوي للأمة التي أراد الله أن تكون «خير أمة أخرجت للناس». فما أعمق الشعور بالإحباط لدى من يهمهم أمرها، وما أبعدها اليوم عن الأمل الذي راود الكثيرين من رموزها التاريخيين الذين لم يستطيعوا انتشالها من هذا الوضع. فإذا كان الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا يحلمون في مطلع القرن الماضي بنهضتها وتماسكها ووحدتها، ويرسمون لها أرضية الانتماء لكي تشعر بالوجود، فأن من لحقهم من العلماء والمفكرين بذلوا جهودا مضنية لإيقاظ أبنائها وشحذ هممهم لوقف ذلك التداعي في الجوانب السياسية والعلمية والإنسانية. غير أن ما حدث في ذروة الحرب العالمية الأولى من تواطؤ غربي لكسر شوكة هذه الأمة متجسدا في الاتفاقية التي وقعتها بريطانيا وفرنسا حال دون نجاح جهود الإنهاض.
وخلال ما يقرب من القرن مرت هذه الشعوب بمخاضات عسيرة، باحثة عن مخرج من السقوط الذي وقعت فيه بعد أن سقط آخر رمز لوحدتها في العام 1923. لم تكن الدولة العثمانية نموذجا قويا أو عنوانا يناسب أمة محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام، ولكنها كانت رمزا لشيء من الوحدة والمركزية ولم الشمل. السلاطين العثمانيون ساهموا في إضعافها بما عاشوه من بذخ واستبداد واستعلاء، تماما كما فعل حكام الأمة منذ العصور الأولى للإسلام. ولكن كان لديها مناعة ضد السقوط أو التلاشي، فاستطاعت البقاء والانتشار، وحازت من مراتب العلم والنفوذ أقصاها. غير إن الفساد الذي نخر جسدها أوصلها إلى حالة الفناء، فنفذ فيها القانون الإلهي الذي يحكم الأمم والشعوب «وتلك القرى لما ظلموا أهلكناهم».
بذل المصلحون جهودهم طوال القرن الماضي ولكن الهجمة الغربية التي أعقبت تلك الاتفاقية وكانت امتدادا للحروب الصليبية قبل ألف عام، تجددت وأصبحت أشرس بسبب النهضة العلمية التي شهدها الغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. كان حلم «الخلافة» و«الحكم الإسلامي» يراود المصلحين ابتداء بعلماء إيران في الحركة الدستورية مطلع القرن الماضي، مرورا بالإمام الشهيد حسن البنا، ومن أعقبه من المصلحين. كان لأولئك أهداف قد تبدو متباينة ولكنها ذات جوهر واحد: إحياء الأمة وإنهاض شعوبها وتوحيد بلدانها تحت راية الإسلام الجامعة. تلك الجهود جاءت متأخرة لأن اتفاقية سايكس بيكو، أعقبها بعد عام واحد صدور وعد بلفور الذي لا يمكن فصله عنها. فقد وعد البريطانيون بالمشاركة في إقامة وطن قومي لليهود. وقد تحقق ذلك بعد ثلاثة عقود تقريبا من الاتفاقية المذكورة، متزامنا مع نهاية الانتداب البريطاني في فلسطين. وأصبحت تلك المشكلة طعنة في خاصرة هذه الأمة، لم تتعاف من آثارها حتى اليوم، وتعبيرا عن المستوى الهابط الذي بلغته أوضاع الأمة التي لم تستطع الدفاع عن أرضها فضلا عن تحقيق الوحدة التي طالما تغنت بها الشعوب المغلوبة على أمرها.
وما تعيشه امة العرب اليوم إنما هو امتداد لما كانت تعيشه خلال الحرب العالمية الأولى.
كانت مستهدفة من القوى الغربية الساعية لبسط النفوذ ونهب الخيرات. يومها كان النفط من الذي بدأ اكتشافه في عدد من البلدان جاذبا للاهتمام، بالإضافة لبسط المشروع الغربي بديلا لمشروع الدولة المركزية لبلدان المسلمين. وبغياب الايديولوجيا السياسية الحاكمة لم يستطع أي من حكامها على مدى مائة عام من الوصول إلى منظومة سياسية جامعة. وأقصى ما بلغته الاجتهادات الشخصية عبر ذلك التاريخ المشروع القومي الذي يروج للوحدة العربية على أساس الانتماء القومي. وساهمت الحرب الباردة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية في ظهور ما يبدو من تحالف بين «القوى التقدمية» العربية والاتحاد السوفييتي. لكن تلك التجربة تكسرت وانهارت بعد هزيمة حزيران، فانتهى المشروع القومي القائل بتوحيد الأمة العربية الواحدة من الخليج إلى المحيط.
وعلى مدى نصف القرن الأخير بقيت أحلام الوحدة تراود النخب بكافة أطيافها العقيدية والايديولوجية. الواقع أظهر أن هناك أعداء لوحدة هذه الأمة، فبعد تجربة الدولة العثمانية لم يعد مقبولا قيام وحدة حقيقية بين دول المنطقة وشعوبها، خصوصا مع استمرار القضية الفلسطينية وعمق الشعور بخطر قيام مشروع إسلامي سياسي يوازي المشروع الغربي ويتحدى نفوذه في المنطقة. الأمر المثير للاستغراب أن منطقة الهلال الخصيب التي كانت المادة الأساسية لاتفاقية سايكس بيكو، ما تزال منطلق الصراع سواء على صعيد القضية الفلسطينية أم في الأزمة السورية والاضطراب الأمني المتواصل في العراق، أم الدور التركي.
فبرغم عضوية تركيا بحلف الناتو ما يزال هناك رفض غربي لعضويتها بالاتحاد الأوروبي نظرا لما تمثله من بعد إسلامي يجعلها أكثر ارتباطا بالشرق منها بالغرب. بل أن الغربيين بدأوا استهداف تركيا بدوافع مختلفة عن الوقائع التي يبررون بها ذلك الاستهداف. فشبح مشروع «الدولة الإسلامية» الحقيقية (وليس على غرار ما تمثله داعش) أيا كان مذهبها، يرعب الغربيين، خصوصا مع تغير موازين القوى في العالم، ونزوع أمريكا للابتعاد عن المنطقة تدريجيا والتوجه نحو جنوب شرق آسيا وبحر الصين.
ماذا يعني ذلك؟ أن شبح اتفاقية سايكس بيكو ما يزال مخيما على المنطقة بعد مائة عام من التحالف الانكلو – فرنسي، والدفع نحو استمرار وتيرة التفكك لا يتوقف. فإذا كانت سوريا والعراق مستهدفتين بالتفتيت بشكل أساسي، إلا أن تركيا ليست بمنأى عن تلك الخطط. ولأسباب داخلية وخارجية هناك نفخ متواصل لإشعال نيران الخلاف والاختلاف بين مكونات تركيا، البلد المسلم الذي يفصل أوروبا عن العالم الإسلامي. وتمثل كل من تركيا وإيران العامل الأخطر، من وجهة نظر الغرب، لأية محاولة توحيدية. فحتى الآن انطلقت دعوات الوحدة على الأرضية القومية التي أثبتت تجارب التيارات القومية عدم قدرتها على تحقيقها.
وبقي البعد الإسلامي الذي لم يكتب له النجاح حتى الآن للاستقرار والثبات كمنظومة سياسية حاكمة. والملاحظ أن اتفاقية سايكس ـ بيكو وقعت في ظروف تداعي دور الدين في الحياة العامة للمسلمين خصوصا في مجال الخلافة والحكم. وتواصلت المحاولات على مدى القرن الأخير من قبل بعض الزعماء بحثا عن صيغة توحيدية. ويمكن أيضا ملاحظة أن الإيديولوجيا ساهمت في تشكيل الوحدة وانصهار الأعراق والتحالفات. فالشيوعية، برغم المؤاخذات الكبيرة عليها، استطاعت توفير سند معنوي لحكام الاتحاد السوفييتي سبعين عاما، ومكنت الصين وكوبا من توحيد الصفوف (بالقمع ومصادرة الحريات والإكراه). واستطاع نظام إيران توفير مظلة للحكم تتناغم في مقاطعها مع مشاعر الشعب وانتمائه الديني. وتركيا هي الأخرى، خرجت من قبضة حكم العسكر تحت مظلة «الإسلاميين» في الوقت الذي فشل دعاة القومية الطورانية البقاء في الحكم طويلا. ويستمد بعض أنظمة الخليج شرعيته من إعلانه الانتماء للإسلام، برغم ما يثار على ذلك من مؤاخذات وتساؤلات. وتمكنت مجموعات التطرف الديني والإرهاب، مثل القاعدة وداعش استقطاب الشباب من بلدان كثيرة بعنوان الإسلام.
ماذا يعني ذلك كله؟ هذه الأمثلة لا تهدف لإقرار إيديولوجية أنظمة الحكم المذكورة، بل لتأكيد ضرورة وجود عقيدة أو إيديولوجية سياسية قادرة على استقطاب البشر، بقناعات ذاتية، على الانضواء تحت لوائها. سايكس بيكو حدثت في ظروف هزيمة نفسية وسياسية لشعوب المنطقة التي كانت محكومة من قبل الدولة العثمانية التي اعتبرت لدى الكثيرين، امتدادا لمشروع «الخلافة الإسلامية». مشكلة هذه التجارب أنها لم تتطور ولم تأخذ بأسباب التقدم والنهضة سواء في المجالات العلمية والتكنولوجية أم في منظومة الحكم. فماذا لو طرح الإسلام عنوانا لجمع كلمة شعوب المسلمين؟ ماذا لو أمكن تجاوز الإشكالات المذهبية والانتماءات العرقية وتوفرت شخصيات قوية قادرة على الاستقطاب، تحمل لواء وحدة المنطقة، على اختلاف انتماءات أهلها العرقية والدينية والمذهبية، ضمن إطار الدين الجامع الذي يحترم حقوق الآخرين، ويرفض منطق الاستئصال والتكفير، ولا يمارس إخراج الآخر المختلف من الملة؟ الأمر المؤكد أن ما يجري في المنطقة يؤكد استمرار مشروع «ما بعد الخلافة العثمانية» الذي بدأ بسايكس بيكو التي استمرت مائة عام، وبدأ الآن يعمل ميدانيا لخلق الظروف الملائمة لنسخة معدلة من تلك الاتفاقية للقرن المقبل. هذه المرة لن تجد الكيانات السياسية القائمة في الدول العربية القدرة على حماية نفسها من المزيد من التفكك، خصوصا مع الصمت الذي استقبل به تقسيم السودان قبل خمسة أعوام. ذلك التقسيم لم يخل من أصابع إسرائيلية. ففي شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي نشر موقع «ميدا» الإسرائيلي ملخصا لكتاب بعنوان: «مهمة الموساد في جنوب السودان». الكتاب يؤرخ لدور ضابط في «الموساد»، اسمه دافيد بن عوزئيل، في تدريب الانفصاليين الجنوبيين وتوجيههم وتسليحهم، منذ ستينيات القرن الماضي، وصولا إلى استقلالهم في عام 2011. ولدى تقديم أوراق اعتماده للإسرائيليين في شهر كانون الأول/ديسمبر 2014 أكد فيها أنّ جنوب السودان أقيم بفضل الإسرائيليين مضيفا أن «الجنوب ولد بفضل دولة إسرائيل والجنرال جون». ستكون سايكس بيكو 2 اكثر ايلاما للعرب والمسلمين لأن قوى الثورة المضادة ازدادت تلاحما وإصرارا على كسر شعوب الأمة ومصادرة حريتها وإلغاء وجودها الفاعل. فما لم يتوقف نزف الدماء وتحدث انطلاقة كبرى على صعيد الحرية والوحدة والكرامة، والتخلي عن عقلية الاستبداد ومصادرة حق الآخر، واحترام الحريات العامة والتصدي للاحتلال، فقد تكون الحقبة المقبلة صورة للقرن الماضي، وربما أسوأ.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2016/06/01