قمّة طريق الحرير في بكّين التي غاب عنها مُعظم الزّعماء العرب القفزة الأكبر.. وزيارة الزعيم الكوري الشمالي لموسكو ستُصيب ترامب بالاكتئاب..
عبد الباري عطوان
لنترُك منطقة “الشّرق الأوسط” جانبًا، ونذهب بعيدًا إلى شرق آسيا التي تشهد تطوّرات سياسيّة واقتصاديّة وعسكريّة على درجةٍ كبيرةٍ من الأهميّة هذه الأيّام تعكِس صُعود المارد الصّيني وخُروجه من قمقمه، وتوسيع دائرة نفوذه اقتصاديًّا وسياسيًّا وعسكريًّا، والبِدء في تشكيل جبهة عالميّة قويّة في مُواجهة الولايات المتحدة الأمريكيّة، ولكن بصمتٍ دون جعجعة.
تطوّران رئيسيّان في المشهد الآسيويّ لا يُمكن تجاهُلهما إذا أردنا أن نتعرّف على الخريطة الاستراتيجيّة العالميّة، وتغيير موازين القِوى في العالم لغير صالح الولايات المتحدة وحُلفائها:
الأوّل: الزيارة التاريخيّة التي قام بها كيم جونغ اون، زعيم كوريا الشماليّة، إلى مدينة فلاديفوستوك، حيثُ التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لمُدّة خمس ساعات، ووصفت وكالة أنبائه بأنّ اللقاء كان ودّيًّا، استقل بعدها قطاره الأخضر المُصفّح عائدًا إلى بلاده في رحلةٍ تستغرق عشر ساعات.
الثّاني: قمّة طريق الحرير التي انعقدت في بكين وتختتم أعمالها غدًا السبت برعاية الرئيس الصيني تشي جينبنغ، وحُضور 35 رئيسًا ورئيس وزراء، ومُمثّلي 150 دولة من آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينيّة من ضمنهم الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين، ورئيس مِصر عبد الفتاح السيسي (كان الرئيس العربي الوحيد)، ورئيس الوزراء الباكستاني عمران خان.
***
إذا بدأنا بقمّة الزعيمين الروسي والكوري الشمالي في مدينة فلاديفستوك، فيُمكن القول بأنّها تجسد توسيع دائرة التحالف الكوري الشمالي، بحيث يضُم روسيا إلى جانب الصين، وتُعزّز موقف الرئيس كيم في مُواجهة الحِصار والتّهديدات الأمريكيّة.
الرئيس كيم عقد قمّتين مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الأولى في سنغافورة في حزيران (يونيو) عام 2018، والثّانية في هانوي في شباط (فبراير) عام 2019 انتَهتا بالفشل، وبسبب تمسّك الرئيس الكوري الشمالي ببرامجه النوويّة والباليستيّة، واشتراطه وقف فوري للعُقوبات الأمريكيّة، وتقديم ضمانات دوليّة موثوقة لبلاده في حال نزع أسلحتها النوويّة، وهي شُروط أصابت الرئيس الأمريكيّ بالإحباط والانسحاب من اجتماع هانوي قبل انتهائه، والعودة إلى واشنطن دون عقد مؤتمر صحافي.
الرئيس كيم لا يثِق بالأمريكان، وأبلغ نظيره الروسي أن أمريكا تصرّفت بنوايا سيّئة، ومعه كل الحق، فقد استوعب جيّدًا ما حدث للرئيس العراقيّ صدام حسين، والزعيم الليبي معمر القذافي بعد أن تخلّيا عن أسلحة الدّمار الشّامل وبرامجهما النوويّة.
إنّه زعيم دولة استطاعت أن تكون ندًّا وشوكةً في حلق الولايات المتحدة، وتكسر غطرستها، وتُصبح دولة نوويّة تحسب واشنطن وحُلفاؤها في المِنطقة (اليابان وكوريا الجنوبيّة) ألف حساب لها، وهُنا تكمُن مُواصفات الزّعامة الحقيقيّة.
الطّريف أن الرئيس كيم يُفضّل دائمًا السّفر بالقطار، وموكبه يتكوّن من ثلاثة قطارات، إحداها مُدرّع مُخصّص له، والثّاني لحُرّاسه، والثّالث للأمتعة، وعندما بحثنا عن سبب تجنّبه السّفر بالطائرة، وجدنا أن أبرز الأجوبة هي الأسباب الأمنيّة، ووجود عُقدة لديه، مثل والده وجدّه من الطيران (فوبيا)، ولأنّه يستمتع برحلة القطار ومطبخه ومرحاضة الخاص الذي ينقله معه في كل مكان يزوره حفاظًا على أسراره الصحيّة.
إما إذا انتقلنا إلى قمّة الحرير الصينيّة، فهي مشروع اقتصاديّ عابر للقارات، استثمرت القيادة الصينيّة فيه 80 مليار يورو على شكل بناء موانئ ومطارات وطُرق سكك حديد، ومناطق صناعيّة في قارات العالم الخمس.
العِملاق الاقتصاديّ الصينيّ الذي من المُقرّر أن ينتقل إلى المرتبة الأولى عالميًّا في غُضون سنوات، قدّم قُروضًا تُقدّر بحواليّ 265 مليار يورو إلى 126 دولة في جميع القارات لتمويل مشاريع اقتصاديّة من ضِمنها خط سِكك حديد يمتد من بكين إلى أوروبا.
كان لافتًا أنّ الولايات المتحدة الأمريكيّة غابت كُلّيًّا عن قمّة طريق الحرير الصينيّة، ولم تُكلّف نفسها بإرسال مندوب عنها، ممّا يعكس حالة القلق التي تسود قيادتها خوفًا من تنامي دور هذا العِملاق الصيني ونُفوذه بحيث بات يُشكّل تهديدًا لهيمنتها على العالم.
الرئيس الصيني جينبنغ الذي أوصل بلاده إلى هذه المرتبة الاقتصاديّة العالميّة (وربّما العسكريّة قريبًا) سيُطيح بأمريكا من عرشها على قمّة العالم وبدأ بتدمير أهم أذرع هيمنتها، وهو الدولار، وبات يعتمد اليوان الصيني واليورو والروبل وعُملات محليّة أخرى كبديلٍ للعُملة الأمريكيّة، ويخوض حربًا تجاريّةً نديّةً ساخنةً مع أمريكا في الوقت الرّاهن.
***
رِهان بعض الدول العربيّة على أمريكا رهانٌ خاسرٌ، لأنّها تُراهن على الماضي، ولا تملك الرؤية الصّحيحة والثّاقبة للمُستقبل، والمُستقبل في وجهة نظرنا هو المارد الصيني الذي بدأ يخرُج بقوّةٍ من قمقمه ويُنافس لاحتلال مكانة عالميّة مُتقدّمة، بعد أن أكمل بناء بُنى تحتيّة اقتصاديّة صلبة.
التجربة الصينيّة بجوانبها كافّة، السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، تستحق الدّراسة ومُحاولة الاقتداء بمُعظم جوانبها، والبِداية في تعلّم اللغة الصينيّة الطّريق الأقصر في هذا المِضمار.
زُرت الصّين قبل بضعة سنوات للمُشاركة في أحد المُؤتمرات السياسيّة، وتعرّفت على رجلٍ عربيٍّ كان أحد المُترجمين لكلمات المُتحدّثين إلى الصينيّة، ولخّص لي التجربة الصينيّة بالقول إنّهم كانوا قبل ثلاثين عامًا لا يأكلون إلا الأرز المسلوق في الوجبات الثّلاث، ولا يرتدون غير البزّة الكتّانيّة المُوحّدة، الآن اختلفت الصّورة، وباتت المطاعم الفرنسيّة والإيطاليّة والتايلنديّة طبعًا واللبنانيّة تنتشر في مُعظم المُدن الصينيّة.
الدكتور طالب الرفاعي، الرئيس السابق لمنظمة السياحة الدوليّة، قال لي إنّ الغزو السياحي الصيني قادمٌ إلى العالم وسيكون هو الطّاغ، والعالم لا يستطيع استيعابه لضخامته.. باختصار انتهى عهد التقشّف وبدأ عهد الرفاهيّة والتمدّد المحسوب خارجيًّا، والمُنافسة على زعامة العالم على أرضيّةٍ اقتصاديّةٍ وعسكريّةٍ صُلبة.
فهل يستوعب “زعماؤنا” العرب معاني هذه التّجربة.. لدينا الكثير من الشّكوك.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2019/04/27